سيارة نظيفة و«زي الفل»

TT

كنت أركب «تاكسي» في أحد البلاد العربية، وما إن انطلق بي حتى شغل شريطا يقرأ القرآن بصوت الشيخ عبد الباسط عبد الصمد، وأنا من المحبين لصوته، ولكنه كان مرتفعا أكثر من اللازم، لهذا طلبت من السائق بأدب أن يخفض الصوت قليلا.

فنظر لي من المرآة العاكسة التي أمامه قائلا بتهكم: ليه مش أحسن من صوت «نانسي عجرم»؟! فقلت: أعوذ بالله، أنعم وأكرم بالله، «إيش جاب لجاب» يا رجل؟!

لم يرد علي، ولم يخفض الصوت، واستمر في مزاحمته للسيارات المتكدسة في الشوارع، وبين الحين والآخر كان يفتح زجاج النافذة ويمد يده ويكيل الشتائم المقذعة للسائقين الآخرين يمينه وشماله، ثم تناول من درج السيارة سندوتشا أعتقد أنه «بصطرمة» وأكله كله خلال أقل من ثلاث دقائق بالعدد، وقذف بالورق على رصيف الشارع، وعندما نبهته على ذلك، قال لي بكل «منطق»: ليه؟ إنت عايز تجلس في سيارة نظيفة و«زي الفل»، ولاّ في صندوق زبالة؟!

ولزمت الصمت مرة أخرى، كل هذا كان يجري، والشيخ عبد الباسط يرتل القرآن ترتيلا.

وعندما وصلت بشق الأنفس إلى غايتي، طلبت الحساب، فقال: هات اللي تشوفه، ونظرت إلى العداد لكي «أشوف» الثمن، وإذا بالعداد طوال تلك المسافة كان معطلا.

وحيث إنني كنت أركب «التاكسيات» دائما في أيام إقامتي هناك فقد قدرت القيمة مثلما كنت أدفع للبقية، بل إنني زدت عليها قليلا، غير أن السائق رفض ذلك واعتبر أن المبلغ إهانة له، وكلما حاولت أن أقنعه كان يزداد حدة بألفاظه، وطلب مبلغا مضاعفا.

وكنت بين خيارين، إما أن أصعّد الموضوع معه إلى درجة التلاسن، الذي قد يصل إلى الخناقة، التي لا أدري كيف تكون نتائجها؟! وإما أن أدفع له ما طلبه، وفضلت الخيار الثاني، خوفا من أن يضيع عليّ الموعد الذي أتيت من أجله، وهاجرت إليه.

ومن شدة قهري أخرجت المبلغ من جيبي، وبدلا من أن أعطيه إياه بيده، قذفت به وجهه، فأخذ يضحك ضحكة صفراء ويهز رأسه قائلا لي: برضه مسامح، بس لازم تعرف أن أخلاق المسلم تأبى أن يرمي بالفلوس هكذا في وجوه الناس المحترمين.

نزلت من سيارته دون أن أرد عليه.

وقد يكون في كلامه الأخير شيء من الصحة.

ولكنني أدينه أيضا بعدة أشياء: فهو أولا: رفع صوت المقرئ إلى درجة لا تطاق، وكان أثناء ذلك «يشتم» الناس.

وثانيا: رمى بالأوراق في الشارع بكل سفاهة من دون أي اكتراث.

ثالثا: أقفل وعطل العداد، الذي هو يحدد أجرته الحقيقية بالعدل، وآثر المشاغبة ليحصل على أكثر من حقه.

رابعا وهذا هو المهم: أنه نسى الطلب الإلهي القائل: إذا قرئ القرآن فأنصتوا له.

فأي إنصات والمسبات التي هي من «الحزام وتحت»، يتلفظ بها طوال سيره، على كل من هب ودب؟!

[email protected]