خواطر ما بعد إيران: جنوب لبنان جنوب العراق

TT

ارتبط التاريخ العراقي بالتاريخ الإيراني على نحو قدري مثير. إمبراطوريتان تتجاوران وتتقاتلان بكل ما في قتال الجيران من قسوة ومنافسة وغيرة وثأر. وفي التاريخ الحديث قدم صدام حسين لإيران ثلاث هدايا كبرى لم تنل مثلها من أحد: الهدية الأولى، كانت إعلان الحرب على الثورة الخمينية. فقد جمع ذلك معظم الإيرانيين خلفها. وأحدث شرخا في شيعة العراق عندما دفعهم بالملايين إلى مقاتلة الشيعة عبر الحدود. والهدية الثانية كانت اجتياح الكويت، فبعدما خرج العراق جريحا من حرب إيران، خرج مدمرا من حرب الكويت. والهدية الثالثة والأكثر أهمية كانت عندما ظل ينادي على النشامى لتحدي الوحش الأميركي، فلم يبقَ بعد وصوله عراق ولا صدام ولا وحدة عراقية.

كان جاك شيراك قد حذر جورج بوش من أن «أبواب الجحيم سوف تُفتح» إذا هاجم العراق، لكن الحقيقة أن أبواب العراق فتحت واسعة وعريضة أمام إيران. ومرة أخرى ظهر التاريخ على السطح بكل آثاره وندوبه وحكاياته وأساطيره الوحشية. وبعدما كان الجنوب العراقي قاعدة مضايقة ينطلق منها «مجاهدو خلق» بالتنسيق مع النظام العراقي، أصبح بوابة للزحف الإيراني، البشري والتجاري والسياسي والمخابراتي. وذلك العراق القوي، الذي كان على إيران دائما أن تضعه في حسابها، أصبح الآن أعرقة متضاربة ضعيفة. والعراق الذي حمل الخميني على «تجرع السم».

تخيل للحظة هذا الجوار المقدم إلى إيران على أطباق من ذهب: عراق ممزق وأفغانستان ممزقة وباكستان مهددة وخليج خالي السلاح، ومن الجانب الآخر حليف سوري قوي، يعاهد إيران أيا كان عدوها.

هذه خريطة سياسية مثالية للانطلاق في المشروع الثوري. لذلك لم يعد يلتفت أحمدي نجاد (ومن يمثل) إلى الداخل وهموم الداخل. إنها لفرصة هائلة متعددة الجوائز: التمدد إلى العراق والنفوذ في الخليج ولعب الأوراق في أفغانستان ورفع الصوت في لبنان.. فماذا ينقص إذن؟.. ينقص، في ميزان الرعب والنفوذ، إضافة القوة النووية. وفي الحسابات الاستراتيجية المجردة، لا تعني القوة النووية واحدا من مليون من قوة «حزب الله»، لأنه لا يمكن استخدامها. وإذا استخدمت فسوف ينهال شلال من القنابل الذرية على المنطقة، ولن يبقى حَكم يرفع يد المنتصر. لكن النووية ورقة تفاوض، أو مسدس يوضع على طاولة المفاوضات خلال البحث في موقع إيران وقوتها وحصتها.

هذا ما لم يكفّ أحمدي نجاد عن التحدث عنه بصراحة عفوية غريبة: موقع إيران ومكانة إيران ودور إيران. إنها تريد الإقرار ربما أكثر مما تطلب القرار. وقد حملت كل هذه الأوراق على أكتافها لكي تحاور واشنطن وهي مثل الروبوت المحمل بالصواريخ. لكن الانتخابات، ونتائجها، وتسرّع السلطة، أفسد الخطط.