التشابك والتلاحم بين أميركا وروسيا

TT

الحقيقة أن باراك أوباما هو المشكلة. فجأة ظهر على الساحة الدولية كأقوى رجل في العالم،وقرر استعمال سحر شخصيته الآسرة،فأصبح الرئيس الأكثر شعبية في العالم. جورج دبليو بوش كان رئيسا «ضروريا» للكثير من الأنظمة الديكتاتورية. هذه الأنظمة تكره الديموقراطية،وتكره الاعتدال والحرية،وتكره أيضاأميركا،واستطاعت على مدى ثماني سنوات التلاعب وإخفاء كل هذه الكراهية بالادعاء،بأنها في الواقع غير مرتاحة لجورج دبليو بوش. وكان العالم المتفرج مضطرا للاقتناع،فمن كان بمقدوره الدفاع عن جورج دبليو بوش وتبرير الكوارث التي أقدم عليها؟

ذهب جورج دبليو بوش، فإذا بالقناع يسقط عن هذه الأنظمة،وهي تجد نفسها وجها لوجه مع رئيس يتمتع فعلا بشعبية فيكل العالم، لقد أخاف أوباما هذه الدول،ولا تعرف حتى الآن ما عليها أن تفعل.

بدأ الارتجاج في إيران،الأزمة لم تنته بعد،انقسام في الشارع،وانقسام بين صفوف رجال الدين الحاكمين هناك. اتهامات تلقى جزافا على السياسيين بأنهم عملاء،فيهب للوقوف معهم رجال دين يعيشون بعيدا في «قم».

لا مقارنة للوضع في إيران والآخر في روسيا. لكن النظامين أخافهما أوباما. هو توجه هذا الأسبوع في زيارة إلى موسكو،يريد أن يطرح ثلاث قضايا لها الأولوية بالنسبة للأمن القومي الأميركي:

1 ـ اتفاق الأسلحة الاستراتيجية مع روسيا.

2 ـ الوضع داخل وحول إيران.

3 ـ الحرب في أفغانستان.

قبل موعد وصوله،بدأت روسيا مناورات عسكرية ضخمة «القوقاز 2009» في منطقة شمال القوقاز المتاخمة لجورجيا. رد أوباما لم يتأخر،إذ قرر إرسال نائبه جو بايدن،إلى أوكرانيا وجورجيا بعد انتهاء القمة الروسية ـ الأميركية.

روسيا لا ترى تغييرا حقيقيا في السياسات الأميركية وتعتقد بأن أميركا غير مستعدة لإجراء تغييرات حقيقية في القضايا المتعلقة بتوسيع الحلف الأطلسي،أو الأمن الأوروبي.

هناك الحاجة لبحث اتفاقية جديدة تحل محل اتفاقية الحد من أسلحة الدمار الشامل التي ينتهي مفعولها في الخامس من شهر ديسمبر (كانون الأول). روسيا ترفض بشدة نشر نظام مظلة الصواريخ الدفاعية في أوروبا الذي سيتطور لاحقا إلى نظام عالمي. لا يمكن لأوباما إلغاء هذا النظام بالمطلق،بل يمكن تأجيله لمدة سنتين أو ثلاث سنوات على الأكثر بانتظار أن تتجاوز أميركا أزمتها الاقتصادية. ويقول لي دبلوماسي غربي: «وقع الطرفان الآن على مذكرة تفاهم لتخفيض عدد الأسلحة النووية خلال7سنوات، أما الاتفاق النهائي حول قضايا التسلح والصواريخ وتوسيع الأطلسي فسيحتاج إلى وقت أبعد من يوم بالقمة».

المهم بالنسبة إلى أميركا،إيران وأفغانستان فهما تحتاجان إلى تعاون روسيا للضغط على إيران في المرحلة المقبلة.

يقول محدثي، ساد إحساس بأن الموقف الروسي تغير أخيرا عندما وافقت موسكو على البيان الذي أصدره وزراء خارجية الدول الصناعية الثماني في26 من الشهر الماضي بعد لقائهم في «تريستي» في إيطاليا. لكن، يضيف،أن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف عندما أبلغ الصحافيين عن قلق روسيا للجوء السلطات الإيرانية إلى استعمال العنف ضد المتظاهرين قال: «لن نتدخل في الشؤون الداخلية لإيران». وحول البرنامج النووي الإيراني أكد لافروف إصرار روسيا على تسوية سلمية وعلى ضرورة أن تبدي المجموعة الدولية بعض الصبر.

يوم الخميس الماضي أكدت الخارجية الروسية،بما يشبه استباقا لأي محاولة ضغط أميركية،أن روسيا تعتبر فرض المقاطعة على إيران بسبب مشاكلها الداخلية غير شرعي،وغير مثمر،لا بل «يمكن أن يتسبب في أوضاع غير جيدة لإيران والمنطقة». وكان بعض المقربين من الكرملين أشاروا إلى أن المظاهرات في إيران تشبه ما سبق «ثورات الألوان» في دول أخرى،واستبعدوا أي تغيير فعلي في سياسة روسيا تجاه إيران.

وكما أن لإيران عدة أوراق،دفاعية أو تحريضية،تتمسك بها للدفاع عن مصالحها ولتهديد الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط الكبير، فإنها هي أيضا أصبحت ورقة في يد روسيا لا تريد التخلي عن التهديد بها، فهناك قضايا كثيرة عالقة بينها وبين أميركا أو بينها وبين الدول الأوروبية.

إذا استبعدنا اتفاقا حول اتفاقية الحد من أسلحة الدمار الشامل،وحول إيران خصوصا فإن هناك تنسيقا روسيا ـ صينيا يتعلق بها، يبقى هناك احتمال التوصل إلى اتفاق ما، يتعلق بأفغانستان. روسيا ترى أنها قادرة على التعاون أكثر مع أميركا حول الحرب في أفغانستان،وترى في هذا التعاون مدخلا أساسيا لتفعيل العلاقات الروسية ـ الأميركية.

أثناء انعقاد مؤتمر منظمة تعاون شنغهاي في موسكو في النصف الأول من الشهر الماضي،أكدت روسيا أنها لن تأخذ مبادرة تسوية الصراع الأفغاني من يد التحالف الأميركي ـ الغربي. هي تريد دورا أكبر ربما في محاربة تهريب المخدرات من أفغانستان، ليس أكثر،لأنها غير مستعدة لتكرار تجربة إعادة إرسال قوات عسكرية.

لكن أمور أفغانستان ليست بهذه البساطة بالنسبة إلى روسيا، فهي تقلقها محاولات واشنطن توسيع وجود قوات الأطلسي في آسيا الوسطى، ثم إن واشنطن هي التي رفضت بصلابة السماح لموسكو بلعب أي دور في البحث عن حل للصراع في أفغانستان،وهي تفضل أن تتفاوض مع الدول كل بمفردها، فقد دعت مثلا الصين وكازاخستان لنشر قوات لهما في أفغانستان.

من جهتها،كما يقول محدثي الدبلوماسي الغربي، شقت روسيا لنفسها طريقا خاصا بإيجاد معادلة تعاون ثلاثية بينها وبين أفغانستان وباكستان. وقد عُقد اجتماع على مستوى وزراء خارجية الدول الثلاث في مؤتمر «تريستي» في إيطاليا،واتفق الوزراء على تقوية التعاون بين دولهم بخط يتماشى مع مبادرات المجتمع الدولي.

يبدو أن موسكو استجابت لرغبة دفينة لدى باكستان لتطوير مسار عسكري سياسي مع روسيا،ولهذا استضافت الشهر الماضي رئيس الأركان الباكستاني الجنرال أشفق قياني.

يقول محدثي،إن باكستان رغبت في معاملة أميركا المصرة،على إشراك الهند في المشكلة الأفغانية رغم اعتراض باكستان، بالمثل. ولبت روسيا النداء الباكستاني رغم معرفتها بأن هذا يثير امتعاض نيودلهي. فالصراع الروسي ـ الأميركي يتجاوز حساسيات الدول الأخرى.

إقامة علاقة مع باكستان وأفغانستان، سمح لموسكو بعدم الاعتراض على محافظة أميركا على تسهيلات لها في قاعدة «ماناس» في قيرغستان، وبرر الرئيس الروسي دمتري ميدفيديف هذا الأمر،بأن روسيا تعتبر «ماناس» جزءا أساسيا من الحرب على الإرهاب.

أيضا، سمحت روسيا للطائرات الأميركية بنقل الجنود والمعدات العسكرية إلى أفغانستان عبر أجوائها (تم التوقيع رسميا خلال القمة يوم الاثنين)،وخفف نائب وزير الخارجية الروسي ألكسندر غروشكو من أهمية هذه الخطوة بقوله: «بالنسبة إلى النقل العسكري، وقعنا اتفاقات مماثلة مع ألمانيا وفرنسا وإسبانيا وقريبا مع إيطاليا».

تعرف موسكو أن الولايات المتحدة تواجه صعوبات في نقل معدات عسكرية ومدنية إلى أفغانستان عبر باكستان،إذ إنها تخسر وحلفاؤها شهريا حوالي 200 شاحنة بسبب هجمات مقاتلي «طالبان». إذن، في أفغانستان تلتقي المصالح الروسية والأميركية،خصوصا أن أي انسحاب سابق لأوانه للقوات الأميركية من أفغانستان، يشكل تهديدا للمصالح الوطنية الروسية في منطقة آسيا الوسطى الاستراتيجية،لهذا، كما يقول محدثي: تشعر روسيا بأن عليها أن تتحمل مسؤولية دولة كبرى، وتقدم مساعدة ملموسة لواشنطن لحل مشكلة أفغانستان، وهذا يصب في مصلحتها مع تزايد الهجمات الإرهابية أخيرا في منطقة القوقاز.

تأمل روسيا أن تحقق خرقا في العلاقات الروسية ـ الأميركية بتقديم المساعدة لأوباما في أفغانستان،وقد تطلب بالمقابل دعمه لعقد مؤتمر دولي للسلام في الشرق الأوسط في موسكو في شهر أكتوبر (تشرين الأول). العلاقات بين البلدين كثيرة التعقيد،ولكنها متشابكة المصالح،وبهما ترتبط مصالح دول كثيرة،أميركا غير مرحبة بعودة قوية لروسيا على المسرح العالمي، وروسيا تعتبر أن هدف أميركا الأول جعلها ضعيفة وأنها تريد إحاطتها بالحلف الأطلسي وأنظمة الصواريخ، لتزداد قوة أميركا وتضعف أكثر روسيا.

صراحة الرئيس الأميركي قد تدفع الطرف الروسي لتقديم المساعدة على الأقل للتخفيف من حجم الألم،أميركا بدأت حملتها في جنوب أفغانستان،إنها تستعجل ترتيب الأوضاع،كما فعلت في العراق،وستحتاج الدولتان،أميركا وروسيا لبعضهما بعضا دائما. لهذا مهما نتج عن زيارة أوباما هذه، فإن أي تعاون الآن يمكن أن يدفع بالعلاقات الروسية ـ الأميركية لاحقا إلى التحسن وانعكاس ذلك على العالم كله. المشكلة أن دول نزاع ومشاكل كثيرة مرتبطة بواحدة من هاتين الدولتين، فإذا التقتا، ساهمتا كثيرا بتخفيف حدة التوتر ونزع فتيل الانفجار في العالم.