العرب وإيران وإسرائيل وأمريكا.. من «يروح» لمن؟

TT

هؤلاء الذين ديموقراطياتهم من زجاج عليهم ألا يقذفوا انتخابات الآخرين بالحجارة, نصيحة نثمنها ونحاول العمل بموجبها, غير أن حديثنا لا ينصب على الانتخابات الرئاسية في إيران بوصفها انتخابات تم تزويرها, فكلنا أو معظمنا في الهم شرق, كما أن الحكومة الإيرانية حرة في شعبها، وفي المقابل الشعب أيضا حر فيما يفعله وسيفعله بها، علما بأن التاريخ على ما يبدو كعظماء الملاكمين، لا يقضي على خصومه في الجولة الأولى بالضربة القاضية، بل يتلذذ بتوجيه الضربات لهم على مدى جولات عديدة يسقطون بعدها على أرض الحلبة من فرط الإعياء. نحن فقط نقول وبكل وضوح نملكه, إن الجمهورية الإسلامية في إيران من الناحية الفنية بدعة سياسية تاريخيا، ما يجعلها عاجزة عن صنع الاستقرار والرفاهية لشعبها، وذلك لسبب أصبح واضحا للجميع، هو التناقض الحاد بين اسمها وتركيبتها. فبعد نضال وآلاف السنين من التجربة والخطأ استقر سكان الأرض على أشكال محددة للحكم، تتحقق بها قوة الدولة وعدالتها, الجمهورية, الملكية, وحتى الإمارة والسلطنة والمشيخة يمكن إدراجها تحت بند الملكية. تأكد ذلك بعد سقوط السوفيتات الروسية والأنظمة التابعة والمماثلة لها, كانت هي الأخرى بدعة, أي ضلالة (Delusio)، ليس بالمعنى الديني ولكن بالمعنى السياسي المستعار من قاموس التحليل النفسي, ولما كان للتاريخ هو أيضا جنته وناره، كان من الطبيعي أن البدعة في السياسة لا بد أن تسكن النار في النهاية.

نحن نرى الآن في إيران جمهورية، ورئيس جمهورية، يعلوه في السلطات والمكان والمكانة مرشد عام, هي إذن (مرشدية إسلامية) وليست جمهورية. ولما كان هذا الشكل الجديد من أشكال الحكم لا يستند إلى قواعد راسخة في عقول البشر مستمدة من تجاربهم ونضالهم الطويل للحصول على الشكل الأمثل للدولة, كان لا بد لهذه البدعة السياسية أن تشيع بين الناس في الداخل والخارج قلقا دائما ووضعا غير مريح، يؤزم علاقات الناس بأنفسها كما يؤزم علاقتها بجيرانها، وربما بكل بلاد العالم.

لسنا نحن سكان المنطقة العربية من يتباعد عن إيران, بل إن إيران بتركيبتها السياسية الحالية هي من يبتعد عنا وعن العالم كله في إصرار. أقول ذلك للأستاذ هيكل الذي حرص على أن يقطع حديثه عن أحداث هزيمة 1967، الذي كان أكثر من شاهد عليها, لكي يتفرغ ساعة كاملة للحديث عن الوضع الحالي في إيران. وهو الحديث الذي أجراه معه مدير مكتب الجزيرة في القاهرة السيد حسين عبد الغني، والذي أنهاه بجملة أرى أنها تتطلب المزيد من ساعات الإرسال لفهمها بدقة، وهي: «صاحب القرار الاستراتيجي والقرار العربي, لا أعرف كيف يفكرون ـ لازم يلطشهم كده لطشة على الماشي ـ وعلى أي حال أنا أعتقد أن أي أحد يشكو إيران، أعتقد أنهم دون أن يقصدوا، وفي الغالب دون أن يقصد، هو موجود في الجانب الخطأ». لقد استمعت بدقة لحديث الأستاذ هيكل, وأنا أستند الآن إلى الصياغة التي قدمتها جريدة «الشروق» المصرية بتاريخ الأربعاء 1 يوليو 2009, وأستطيع أن أقول، وعندي معطياتي أنا أيضا: وأيضا هؤلاء الذين يقفون مع حكومة السيد أحمدي نجاد المدعومة بلا حدود من السيد خامنئي, مساندين بكل حماسة لهذه البدعة السياسية, هم أيضا بكل وعيهم وإرادتهم يقفون مع الجانب الخاسر.

يقول الأستاذ هيكل: «الصورة الحقيقية في إيران لا تزال متماسكة جدا ـ حالا ستعرف لماذا أستخدم كلمة جدا ـ والدليل أن المرشد عندما تكلم هبط صوت المظاهرات في الشارع، وأن الموجود الآن عمليات صغيرة جدا ـ جدا مرة أخرى ـ خاصة في شمال طهران، حيث تسكن الطبقة الأرستقراطية. الشعب الإيراني لا يعرف المظاهرات بالشموع.. والست اللي ماتت (حذفت جريدة «الشروق» اسمها، وهي ندا سلطان, كما حذفت جملة «كانت سافرة» التي قالها الأستاذ هيكل)، وأنا حزين جدا لأن هذه الست اللي ماتت كانت رايحة الجيم تلعب رياضة».

الأستاذ هيكل هو آخر الحكائين المصريين, وفي مواجهة الكاميرا هو ممثل عبقري يلقي مونولوجا طويلا على المسرح, كل كلمة عنده مقصودة ولها أهميتها, كل كلمة عنده ترسم جزءا من الصورة في ذهن المتفرج ووعيه, لاحظ الكلمات: الوضع متماسك جدا.. تحلمون بأن شيئا سيتغير.. منذ متى والشعب الإيراني يتظاهر بالشموع؟.. لا بد أنها الإمبريالية.. هذا حي الأرستقراطية سكانه ليس لهم صلة بحركات الاحتجاج في الشارع.. أما حكاية هذه الفتاة التي شاهدها العالم لحظة موتها فقد كانت في طريقها إلى الجيم.. لم تكن في حالة احتجاج على نتيجة الانتخابات.. أنا حزين عليها.

حسنا.. لا بأس من الموافقة على أن قوات الحرس الثوري في طهران تخفي أفرادها في مباني أحياء طهران الأرستقراطية منعدمة الصلة بالاحتجاجات، وقتلوا فتاة لا شأن لها بالمظاهرات، وقد كانت فتاة لاهية, بدليل أنها في هذه الظروف المؤلمة كانت في طريقها إلى الجيم، فأصابتها رصاصة.. لا أعتقد أن منصفا يوافق على هذه الصورة، فالدولة الطبيعية مسؤولة أيضا عن حياة الفتيات السافرات اللاتي يمشين في الشوارع في طريقهن إلى (الجيم).

عقب أحد الفواصل فاجأ الأستاذ هيكل السيد عبد الغني بقوله: «على فكرة, هناك كلمة قلتها لي أثناء الفاصل أنا أكرهها بشدة.. طلبت مني أن أتكلم باختصار شديد.. أنا أكره هذه الكلمة، وعندما يقولها لي أحد أفكر في القيام والانصراف فورا».

اعتذر عبد الغني الذي غاب عنه أن المنولوجات يستحيل حذفها, إنها قاعدة صارمة في المسرح. وأكمل الأستاذ, كان لا بد من مئات الكلمات لكي يصل إلى ما يريد أن يصل إليه، وهو أن تذهب العرب إلى إيران قبل أن تصل إليها إسرائيل. وهي مقولة من الصعب ـ إن لم يكن من المستحيل ـ فهمها. أنا أفهم أن تستخدم إسرائيل كفزاعة سياسية كما استخدمت من أطراف عديدة لعشرات السنين, غير أنني لا أفهم ذلك في هذا السياق. ما هي حكاية أنه على العرب أن يسبقوا أمريكا وإسرائيل إلى إيران؟ ما هي طبيعة هذا السبق أو السباق؟

هل تعاون إيراني إسرائيلي أمر وارد على المدى القريب أو البعيد؟ أعرف بالطبع أنه لا توجد تناقضات استراتيجية بين إسرائيل وإيران تحتم الحرب يوما ما, وأقصى ما يمكن أن يحدث بينهما هو أن تضرب إسرائيل المفاعل النووي الإيراني في اللحظة التي تتمكن فيها إيران من صنع قنبلة نووية, أي بعد خمسة أعوام طبقا للتقدير المعلن لأحد المسؤولين في المخابرات الإيرانية. هذا أمر سيحدث حتما طبقا لكل الحسابات السياسية، وربما بغير موافقة الغرب وأمريكا. غير أن السؤال هو: ما هو الخطر في أن تصل إيران مع إسرائيل إلى أية صيغة من صيغ السلام؟ أم أنه من المحتمل أنهما سيتفقان علينا ويأخذان جانب العداء لنا؟

وماذا يحدث عندما تسبقنا إسرائيل وأمريكا أيضا إلى إيران؟ ماذا يعني ذلك؟ هل يعني أن تحدث معجزة سياسية ويقول أحد المسؤولين في إيران في يوم قريب: ماذا نفعل؟ طلبنا منكم المجيء فتباطأتم وأضعتم الوقت بالرغم من نصيحة الأستاذ هيكل لكم.. وجاءت إسرائيل ومعها أمريكا.. فرحبنا بهم.. هل كنتم تتصورون أن نقول لهم «اتفضلوا مع السلامة».. عيب.. هذا أمر لا يتفق والأخلاق الفارسية والعربية.

أنا عاجز عن تصور ذلك, كما أنني عاجز عن حكاية السبق هذه. من المهم أن يشرح لنا الأستاذ هيكل، بغير اختصار، ماذا يقصد بأن «نروح» لإيران قبل أن «تروح» لها إسرائيل.