وثبت أن (الآخر) ليس ملاكا طاهرا كما يُصوَّر

TT

امرأة تستر نفسها - بهذه الصورة أو تلك ـ هل هذا سلوك يهدد النهضة العلمية، والأمن، والتنمية، والحريات العامة.. هل هذا سلوك يؤذن بانقراض البشرية، وزوال السنن والقوانين الكونية؟

لا.. بطبيعة الحال.. فكما أن هناك نساء يكشفن أجسادهن وشعورهن - في أشكال شتى - بحرية «!!»، فإن من حق أخريات - بمنطق الحرية ذاتها - أن يسترن أجسادهن وشعورهن.

ومع أن هذه بدهية عقلية وواقعية واجتماعية وقانونية وحضارية، فإن هناك من (يعتقد) أن زي المرأة المسلمة ظاهرة يضيق بوجودها الكون!!

ومن شاء أن يعتقد هذا الرأي فليفعل.. ولكن ليس من حقه - بأي مقياس من المقاييس -: أن يسخر مما يتمتع به الآخرون من حقوق الملابس وحرياتها وخياراتها. للرئيس الفرنسي ساركوزي أن يقول: إن علمانية فرنسا لا تتقبل هذا النوع أو ذاك من أزياء النساء، ولكن ليس من حقه: أن يسخر من هذا الزي ويصفه بأنه نوع من (العبودية).. ولئن كان من حقه - جدلا - أن يتفوه بهذا فيما يتعلق بالمجتمع الفرنسي، فليس من حقه - قطعا - أن يشمل بنقده وسخريته مجتمعات ودولا أخرى، واصفا ما تمارسه نساء هذه الدول، أو قطاعات من نسائها: بالتخلف والاستعباد!! فالسؤال البسيط جدا الذي ينسف مقولاته هو: أوليس في فرنسا وأوروبا نساء عاريات (مستعبدات) في هذه الصورة أو تلك؟!

ونسارع إلى لجم النزوع إلى التعميم بالقول بأن زعماء الغرب ليسوا سواء في هذا الموقف، فقد دافع الرئيس الأميركي باراك أوباما عن حق المسلمات الأميركيات في ارتداء زيهن الإسلامي، بل اختار مستشارة مسلمة ترتدي هذا الزي: كرمز لتقبل المجتمع الأميركي لهذه القيم الاجتماعية الإسلامية.

على أن سخرية ساركوزي قد تهون - وهي غير هينة في ذاتها - بالمقارنة بما حدث في ألمانيا للسيدة مروة الشربيني رحمها الله.

فهذه سيدة مسلمة مصرية (مسالمة) تتلقى تعليما عاليا في ألمانيا في صحبة زوجها الدارس أيضا.. لم تخالف هذه السيدة قانونا ألمانيا، ولم تؤذ أحدا من الناس.. (جريمتها الوحيدة): أنها تمارس تعاليم دينها في ارتداء الزي الإسلامي.. غير أن ألمانيا متعصبا لم يرق له أن يشاهد امرأة مسلمة تغطي جسدها وشعرها فطفق يسخر منها - بدأب -، ويقذفها بوصف (مسلمة إرهابية).. و.. و.. و.. وفي البداية أغضت هذه السيدة عن الإساءات المتكررة، ولكن عندما تكثفت الاستفزازات سلكت الطريق القانونية في كف الأذى عن نفسها، فرفعت قضية ضد هذا المتعصب المستفز (الضائق بوجود الآخر)، فحكمت المحكمة لصالحها.. ثم استأنف الحكم ذلك المتعصب.. وفي المحكمة وقع ما لا يقع إلا في غاب الوحوش، إذ أقدم العنصري الألماني على طعن السيدة المسلمة مروة الشربيني بـ 18 طعنة بسكين، مما أدى إلى وفاتها والناس ينظرون.. أين؟.. في المحكمة التي ذهبت إليها لتنصفها!!

هذه جريمة مركبة وغير عادية:

أ - فهي جريمة التعصب العنصري.

ب - وهي جريمة الاستهزاء بمظهر إسلامي.

ج - وهي جريمة الاعتداء على (الحرية الشخصية).

د - وهي جريمة ممارسة القتل على الهوية.

هـ - وهي جريمة وقعت في (مكان العدالة والأمن)، وقعت في المحكمة.

و- وهي جريمة (إرهابية) - بالمعنى العلمي للكلمة -.. فالقاتل المجرم أرهب هذه السيدة بالقذف القولي.. ثم مارس الإرهاب الدموي ضدها فقتلها بالسكين.

إن هذه الجريمة قضية جد كبيرة وشائكة تتعلق بالأديان والعلاقة بين الشعوب والأمم والحضارات.

وإنا لندعو إلى طرق هذه القضية ومعالجتها من محاور عديدة:

أولا: محور أن (حشمة) النساء (قيم مشتركة) بين الأديان السماوية.. ففي القرآن: «يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن».. وفي وصية بطرس للنساء المسيحيات: «لا تكن زينتكن ظاهرة من ضفر الشعر، والتحلي بالذهب، والتأنق في الملابس، بل الخفي من قلب الإنسان، أي زينة بريئة من الفساد لنفس وادعة، ذلك هو الثمن عند الله».

وقيمة الحشمة واحدة من قيم كثيرة مشتركة منها:

1 - قيمة الصلاة والزكاة.. ففي القرآن: «وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة».. وفي رسالة عيسى التي حكاها القرآن على لسانه: «وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا».

2- قيمة بر الوالدين.. ففي القرآن: «وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا».. وفي رسالة المسيح التي حكاها القرآن على لسانه: «وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا».

ثانيا: محور ان الاستهزاء الإعلامي الغربي بالإسلام، والسخرية منه، والتحريض على كراهيته، أوجد مناخا مريضا ينفث فيه المتعصبون سمومهم ضد كل شيء إسلامي. ومن السموم ما يتحول إلى سكاكين قاتلة كما حدث في ألمانيا لتلك السيدة المسلمة.. ومنذ قليل أُحرق ـ في أميركا ـ إمام مسجد مسلم من خلال حرق بيته وهو فيه، ولقد وجدت شعارات عنصرية على جدران البيت المحروق!

ولا شك في أن للإعلام الزارع للبغضاء والكراهية ضد المسلمين دورا في هذه الجرائم.

ثالثا: محور التحرر من السذاجة المفرطة في تناول مصطلح (الآخر).

فلقد كثر الحديث عن (الآخر) وضرورة الاعتراف به، والتعامل الكريم معه، دون نبذ ولا إقصاء.

ونحن مع الاعتراف بالآخر، والتعامل الكريم معه، ليس مجرد مسايرة للذين يتحدثون في الموضوع بمنطق جلد الذات، أي بمنطق أن المشكلة فينا وحدنا: لا يتحمل الآخر أية مسؤولية في سوء العلاقة بين الطرفين!!.. كلا لا ننظر إلى القضية من هذه الزاوية الجالدة للذات، وإنما ننظر إليها بمنظار (منهجنا) المرجع.. فهذا المنهج يقرر ـ بوضوح وحسم ـ: الاعتراف بالآخر:

1- الاعتراف به وفق الأصل الإنساني المشترك: «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا».

2- والاعتراف بوجوده المعنوي المتمثل في الاعتراف بالتوراة والإنجيل، ونبوة موسى وعيسى - عليهما السلام ـ.

3- الاعتراف به بالكف عن سب آلهته: «ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم».. وبإيثار الأسلوب الأحسن في مخاطبته: «وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن».. وبممارسة العدالة ـ على كل حال ـ في التعامل معه: «ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى».

ولسنا ننكر أن في المسلمين من يتجهم للآخر بإطلاق، بيد أن هذا سلوك ذميم دميم يدينه المنهج، ولا يكون ـ قط ـ حجة على المنهج.

والحق: إن معظم المشكلة في (الآخر) الذي يصور وكأنه ملاك طاهر سلوكه المطلق هو الصفاء والنقاء والتجرد والحب والعدل والتسامح والتهذيب.

إن الآخر هو الذي لا يعترف بنبينا ولا برسالته، ولا بقيم هذه الرسالة في حياة المسلمين، وبناء على هذا الإقصاء والنبذ، يسخر من الرسالة وصاحبها، ويسخر من قيم الإسلام الاجتماعية ـ كزي المرأة المسلمة ـ سخرية تمثلت في الألفاظ النابية، وفي القتل بالسكين!!

ثم هذا (الآخر الصيني): ما خطبه، وماذا دهاه؟!.. إننا لم نؤخر الحديث عنه: تقليلا من بشاعة ما صنعه بالمسلمين هناك، وإنما سبب التأخير هو: أن الإعلام كثف الأنباء والصور عما يجري في الصين، على حين أنه لم يكترث ـ كما ينبغي - بقتل السيدة المسلمة في ألمانيا بسبب زيها الديني.

إن السلطات الصينية الشيوعية انحازت إلى الأكثرية العرقية الشيوعية المتحكمة في ذلك الإقليم - وفي الأقاليم كافة تقريبا -: انحازت إليها بتمكينها من ذبح مئات المسلمين في الشوارع والحواري والميادين.

ومن المفارقات أن شيوعيين يدّعون أن أيدلوجيتهم فوق القوميات يتحركون بدوافع عرقية عنصرية!

وعلى الرغم من احتجاجات كثيرة في العالم صدرت ضد ما يجري للمسلمين في الصين، فإن السلطات الصينية تمادت في جبروتها وقمعها و(كراهيتها) للإسلام، فعمدت إلى إغلاق المساجد في ذلك الإقليم المضطرب: حرمانا للمسلمين من أداء فريضة دينية عينية وهي صلاة الجمعة (أمس).

ولم تجد السلطات الصينية حجة تسوغ بها ظلمها وعنصريتها إلا حجة المسوغ العام المطاط، أي مسوغ مكافحة الإرهاب.. وهم بهذا إنما في فتنة الإرهاب سقطوا.. فهذا القمع المتوحش هو أعظم وقود لوجود الإرهاب، أو لزيادة رقعته وحدته إن كان موجودا.. ولئن كانت الصين تستميل الغرب بهذه التعلة، إذن فلتعلم أن الغرب نفسه يمكن أن يستغل هذه الأحداث ضدها: اليوم أو غدا: إذا ساءت العلاقات ـ لهذا السبب أو ذاك ـ بين الصين وبين الغرب، كما استغل ـ من قبل ـ أحداث التبت ضدها.

وكان هناك من يقدر أن الصين تخلت عن (هوس الأيدلوجية) لخدمة مصالحها الوطنية العليا والأرجح، بيد أن هذه الأحداث تؤكد أن معيار الأيدلوجية (العرقية)!! لا يزال طاغيا.. مثلا: الصين تسعى إلى تحسين صورتها وعلاقتها بالعالم الإسلامي بحضور فاعل: تجاري ودبلوماسي وثقافي. وهذا من مصلحتها بلا شك، لكن مما يهدد هذه المصلحة: هذا التوحش في التعامل مع قطاعات واسعة من مسلمي الصين.