لبنان السلاح والرئاسات: انطباعات من دمشق

TT

كنا وما زلنا بموضوع السلاح الثقيل في لبنان المستضعَف نرى أن ترشيده وقوننته وكذلك الاحتفاظ به وبالتالي استعماله، غدت من الأمور الواجب الحسم بها وعلى قاعدة التفهم وليس التحدي ومن خلال الاستراتيجية الدفاعية أو ما أشبه ذلك من النظريات. وعلى رغم التعثر الذي انتهى إليه الفصل الأول من «الحوار الوطني» في شأن هذا السلاح، فإن التوجهات الدولية والظروف الإقليمية المستجدة واقتناع الحكم السوري أن الأقانيم الثلاثة، إذا جازت التسمية، وهي التهدئة والوحدة الوطنية والإعلام العفيف اللسان، هي المدخل إلى الجوار المثالي والمصلحة المتبادَلة بين الشعبين.. بل إن الأقانيم الثلاثة بالنسبة إلى وطن صغير متنوع المذاهب ومتعدد المشارب عاش ظروفا مأساوية وفواجع رافقها الدمار والتخريب الأمر الذي أربك عجلة نموه وأحدث شروخا في نسيجه الاجتماعي، هي مثل الأقانيم الثلاثة التي تظلل الحكم السوري وهي الوحدة والحرية والاشتراكية، ومن خلال التمسك بها تعيش سورية البشّارية في أجواء من الطمأنينة والتنمية المدروسة والتطوير المتدرج والآمال المعقودة على الرئيس بشّار في مواصلة تصحيح ما لم يتم تصحيحه لأن الظروف غير مواتية وما هو قيد التصحيح بحكم ملامح التبدل في الظروف، وكل ذلك من دون هز الثوابت بفعل أمزجة بعض أُولي الأمر في الصفوف الخلفية التي لها أساليبها وأطماعها وجشعها وثعلبتها.

الآن نحن أمام توأم السلاح الثقيل ونعني به السلاح الخفيف الذي هو في لبنان بين أيادٍ غير مسؤولة تستعمله ساعة تريد ترحيبا بإطلالة أو ابتهاجا بعبارات من الوعيد أو تهليلا بالرصاص لانتخاب وهو تقليد لا يليق بلبنان المتجدد تبريره بأنه مجرد فرحة شباب أو غضْبة شباب من أمر لا يعجبهم. وعندما لعلع رصاص شباب «أمل» من رشاشاتهم ومسدساتهم في الشارع ومِن الشرفات أو السطوح ابتهاجا بتجديد زعامة الأستاذ نبيه بري لمجلس النواب فإن هذا الرصاص وما تَسبّب به أزعجنا وأفزعنا نحن الذين رأيْنا في تجديد انتخاب أبو مصطفى رئيسا للبرلمان عنصر توازن في الرئاسات الثلاث، أو فلنقل في الرئاستين الثانية والثالثة، بحيث تتعادل كفتا الميزان الرئاسي من حيث الأهمية، لأن في تعادُل كفة الزعامة للشيعة السياسية مع كفة الزعامة للسنّية السياسية (أي سعد الدين رفيق الحريري) ما يحقق الاستقرار المأمول. أما لماذا أزعجنا وأفزعنا فلأن هذا الترحيب الرصاصي فضلا عما أحدثه من إصابة أشخاص بجروح ومدارس بشظايا، عكّر علينا شعور الارتياح بالاستمرارية النبيهية لما لصاحبها من تجربة عريقة وعلاقات كفيلة، بعد تعديلات لا بد منها في الرؤية، بأن تجعل المثلث الذهبي العربي (مصر والسعودية وسورية) أقل هموما من الحالة اللبنانية وأكثر اهتماما بها وتجعل المربَّع الماسي (أميركا وفرنسا وبريطانيا وروسيا) أقل تحرشا بتلك الحالة وأكثر رعاية لها، كما تجعل الخشية الفاتيكانية لا تعود على نحو ما يعكسها نُصحا وتحذيرا غبطة البطريرك الماروني مار نصر الله بطرس صفير.

ولقد افترضْنا أن الرئيس المتجدد لبرلماننا الجديد سيأمر بأن لا تنطلق بعد اليوم أي رصاصة من مُحارِك (نسبة إلى حركة) أو من نصير والاكتفاء بالترحيب وإعلان الولاء عبْر إعلانات في الصحف أو يافطات، وذلك بعدما قضي أمر الفوز، وحرصا على هدوء يزيل وإلى غير رجعة ندوب ظروف مضت وبذلك تتأكد مقولة أبو مصطفى بأن الذين لم ينتخبوه يوم الخميس 25 حزيران (يونيو) 2009 سيصوتون له يوم الخميس 25 حزيران 2013 (ربما هذا اليوم وربما يصادف يوما آخر). وكان افتراضُنا من منطلَق أن الرئيس بري حريص على أن تكون مهابة المنصب في المقام الأول ولا تختلط مقتضياتها مع ضرورات الزعامة الشعبية كون الرئيس بري يترأس «حركة أمل». وهو من هذا المنطلق قادر أن يأمر فيطاع، وبحيث إن الخروج على الأمر وبالذات بالنسبة إلى مسألة الابتهاج الذي يؤذي ويزعج هو معصية تخضع للمعاقبة.

مساء الأحد 28 حزيران (يونيو) 2009 باغتنا السلاح الخفيف في قلب العاصمة بيروت وذلك بعد دقائق من عودتي من زيارة إلى دمشق لمستُ خلالها ارتياحا لما يؤول إليه الوضع اللبناني من خلال جولات أفق كلامية مع بعض إخواننا في مفاصل الدولة وبالذات من وزير الإعلام الدكتور محسن بلال الذي بعدما كان الدماغ العربي خسر برحيل شقيقه جرّاح الأعصاب الأشهر الدكتور علي بلال، خسرت المشارط وغرف العمليات رشاقة يديه (أي محسن) في الحالات الجراحية المستعصية وربحَته الحالة الإعلامية العربية عموما واللبنانية ـ السورية بوجه خاص لكثرة ما في جنباتها من أشواك، وهما حالتان يتعاطى معهما وكأنما هو في غرفة عمليات وبكل الحرص في أن تنتهي العملية التي يجريها إلى النتيجة التي يحققها جرّاح فصْل التوائم السيامية الأشهر على المستوى العالمي الدكتور عبد الله الربيعة الذي أجرى حتى الآن 21 عملية فصل تكللت بالنجاح. وكلاهما اختير لمسؤولية إصلاح ما يمكن إصلاحه: الجرّاح الدكتور محسن بلال الذي اختاره الرئيس بشّار الأسد طالب الطب قبل الترؤّس الذي يعرف أهمية أستاذه في إصلاح الحالة الإعلامية. والجرّاح الدكتور عبد الله الربيعة الذي رأى فيه الملك عبد الله بن عبد العزيز القدرة على إصلاح أحوال وزارة الصحة السعودية ومِن منطلَق أن من يفْصل مرة وثانية وثالثة وعدة مرات التوائم الملتصقة وفي عمليات تستغرق الواحدة منها أكثر من نصف يوم ففي استطاعة هذه الدقة في استعمال مشارطه إصلاح أحوال وزارة الصحة ولذا جاء اختياره ليكون وزيرها. وزادت التكريم لفتة استثنائية، حيث إن خادم الحرمين الشريفين قدّم لكتاب بعنوان «تجربتي مع التوائم السيامية» وثّق فيه الدكتور الربيعة تجربته الطبية وأعرب الملك في التقديم عن فخره بهذه القيمة العلمية السعودية العربية المسلمة. عسى ولعل يوثق الدكتور محسن بلال في كتاب تجربته وتجربة الأخ المرحوم علي مازجا (أي الدكتور محسن) الذكريات الطبية مع ذكرياته عن سنوات العمل البرلماني والدبلوماسي التي خطفته من عالم الجراحة.

هذه المباغتة للسلاح الخفيف تجعلنا نتساءل: لقد تم التوافق أو التراضي ونالت كل طائفة نصيبها. وبعد انقضاء شهر العسل الرئاسي ستكون هنالك عودة إلى الحوار الوطني وسيأخذ موضوع السلاح الثقيل حصته الكبرى من المناقشة بأمل التوصل إلى الاقتناع بأن السلاح الثقيل يُستعمل وفق تنسيق بين لجنة تمثل القيادتين السياسية والعسكرية للدولة (رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة) من جهة، ومندوب دائم للمقاومة في هذه اللجنة، وذلك في حال الرد على عدوان وتحاشي ذريعة تعريض البلاد لعدوان. وهذه اللجنة تتخذ أيضا القرار بالتراضي لا بالتصويت لأن القرار في هذه الحال يكون بالإجماع. أما بالنسبة إلى السلاح الخفيف الذي يقضّ المضاجع ويتسبب في إزهاق أرواح وجرْح أفراد وترعيب أطفال نيام أو مسنّات ومسنّين مرضى، فهذا أمر يحتاج إلى خطوتين متلازمتين: الأولى مصادرة هذا السلاح وتحريم استعماله وبذلك لا يكون دور قوات الجيش هو فقط فضّ الاشتباك ومطاردة حاملي رشاشات ومسدسات إلى حين وصولهم إلى منازلهم أو مخابئهم. أما الخطوة الثانية فهي إصدار تعميم حازم تتعهد فيه الرئاسات الثلاث (الجمهورية، مجلس النوب، الحكومة) برفع الغطاء عن مرتكبي المظاهر الحربية أيا كانوا. وقد يقال إن الدولة التي تتساهل مع وسائل الإعلام فيها على أنواعها في التعريض بكرامات الآخرين وتعمم على الورق وعلى الهواء عبْر الفضائيات، التي تستضيف المتوترين، من سيئ الكلام ما يشبه الحطب يُلقى به على النار لتزداد اشتعالا لماذا يجب أن تكون حازمة مع الذين يحملون الأسلحة الخفيفة ويروّعون الناس. أليست أحيانا القذائف التي تنطلق من الألسنة مثل القذائف التي تنطلق من الرشاشات والمسدسات؟

وهذا صحيح، إلا أن كل شيء بأوانه. والأهم يتقدم على المهم.. وعلى وجه السرعة.