الإيمان والنظافة

TT

لدينا مشكلة ثقافية في مسألة النظافة، وتحديدا النظافة البيئية، ونظافة اليد السياسية. الإنسان في عالمنا العربي نظيف في محيط لا يتعدى قطره جسده وبيته فقط. تدخل البيت العربي فتجده «يلمع» نظافة (في الغالب)، مهما كان بيت العربي متواضعا في أثاثه وديكوره وتصاميمه، إلا أنه مرتب ونظيف في كل أركانه وزواياه، لكن ما إن تخرج أمام عتبة البيت، حتى تجد المخلفات والزبالة متراكمة في كثير من المدن والقرى والبلدات والضيع العربية. تجد إنسانا متعلما ونظيفا في قيافته وهندامه، خلوقا وحسن المعشر وناجحا في حياته العملية والاجتماعية، محبا لأسرته وأصدقائه ومعارفه، لكنه إنسان غير نظيف في تعامله مع محيطه البيئي ـ بالأصح هو إنسان قذر ووسخ بيئيا. يقود سيارته الفارهة التي لم يساهم ـ لا هو ولا أحد من أبناء وطنه ـ بصناعة إطار فيها، فيتوقف عند الإشارة، ليرمي بمخلفات وفضلات لمأكولات التهمها أثناء قيادة السيارة، أو يرمي علبة مشروب غازي في الطريق أثناء قيادة السيارة.

تناقض في سلوك الواحد منا بين محيطه المباشر وبيئته الأرحب، ووطنه الأوسع. غريب هذا التناقض في علاقة الواحد منا بين محيطه المباشر القريب، وما هو أبعد من ذلك. ترى! هل هو ضيق أفق النظافة لدينا؟ أم أنها الأنانية ونظرتنا للنظافة بما لا يتجاوز ما تراه أعيننا بشكل مباشر؟

إن ما يصدق بعلاقتنا بالبيئة، صحيح كذلك في علاقة معظم ساستنا ومسؤولينا بعلاقتهم بالمال العام الذي يخص شعوبهم، عبث واختلاس وسرقات تتم علنا، تشبه السر، لأن الحديث عن تفاصيلها ممنوع على إعلامنا «الحر» المستقل. كثير من هؤلاء الساسة والمسؤولين الكبار معروفون بالاستقامة في سلوكهم الشخصي ونجاحاتهم الشخصية، لكن ما إن يتبوأ الواحد منهم موقعا سياسيا أو منصبا حساسا يكون فيه مسؤولا عن مقدرات وخيرات الناس، حتى ترى تناقضا في سلوك هذا الإنسان بالحرام والحلال حين التعامل مع المال العام. تناقض يشبه إلى حد كبير تناقض العلاقة بين الإنسان النظيف الهندام، ووسطه البيئي المحيط. موظفون كبار يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويصومون ويحجون، لكنهم «لصوص» بكل معنى الكلمة في وظائفهم ومهنهم. صحيح أنه ليس هناك ثقافة تخلو من هؤلاء، لكنها أصبحت ظاهرة في عالمنا وتحولت إلى جزء من ثقافتنا، تحتاج إلى شجاعة ومكاشفة. في ثقافات المحاسبة والمسؤولية، ما إن يتم كشف تلاعب أحد الكبار، حتى يلقى حسابا وجزاء، ولنا في النصّاب الأكبر في التاريخ «برنارد مادوف» خير مثال. لكن نصابينا ولصوصنا الكبار، ما زالوا يتقدمون الصفوف، وتحترق الأكف من حرارة التصفيق لهم أينما حلوا.

ضعفت هيبة ذلك الرجل الملتحي الذي يباعد بينه وبين الحرام، والسبب تكرار حوادث الاعتداء على المال العام، وأحيانا الخاص، لبسطاء صدقوا هؤلاء اللصوص تحت شعارات الاستثمار الحلال ومباركة الأموال وتوزيع الصدقات.

واضح من العلاقة المتناقضة بين الإنسان وبيئته، وبين الإنسان ومفهوم النظافة السياسية، أن هناك خللا تربويا وثقافيا خطيرا. كم رددنا قرونا قول النبي الكريم بأن «النظافة من الإيمان»، ولكن من الواضح أننا حصرنا هذا المفهوم للنظافة بالطهارة البدنية، وليس بطهارة البيئة والذمة المالية. مطلوب إعادة النظر في مناهجنا التعليمية التي خلقت إنسانا متناقضا في فهمه للنظافة بمعناها الأشمل الذي يتجاوز بدنه، وفي مفهومها للحرام حين يتعلق الأمر بالمال العام. علينا أن نعمل على خلق إنسان يتسع إدراكه لمفهوم النظافة ليتعدى حدود قدميه ورأسه، وهو إنسان سيكون مفهومه للتعدي على المال العام محرما حرمة التعدي على ماله الشخصي.

تساؤل هام للوصول إلى معادلة ثقافية جديدة: هل تؤدي قلة الإيمان إلى غياب النظافة؟ أم أن غياب النظافة يقود إلى ضعف الإيمان؟