ماذا لو فعلتها إسرائيل؟

TT

حمدا لله أن جورج دبليو بوش وبنيامين نتنياهو لم يجتمعا في وقت واحد، وإلا كان ذلك أمًّا للكوارث. فاليوم يدور حديث عن احتمال قيام حكومة نتنياهو بضربة وقائية ضد المنشآت النووية الإيرانية، ولكن حمدا لله مرة أخرى أن هنالك سيدا عاقلا في البيت الأبيض اليوم، لا تهيمن عليه أساطير الـ«سوبرمان» ولا غطرسة القوة أو أوهام العظمة، كما كان الحال مع الإدارة الأميركية السابقة. فحين كان اليمين الجديد يحكم أميركا أيام الرئيس بوش، كانت نظرة هذا اليمين إلى العالم من أنه مكون من أعداء وأصدقاء فقط: الأصدقاء هم الممتثلون للإرادة الأميركية، ممثلة بإرادة اليمين الجديد، دون تساؤل أو تردد، وجائزتهم هي «تركهم يعيشون». أما الأعداء فهم كل من تبقى، وعقابهم هو استمرار رفع الهراوة الأميركية في وجوههم لو فكروا بتحدي الإرادة الأميركية، أو لنَقُل إرادة ممثلي إرادة الرب على الأرض، وفق فلسفة اليمين الأميركي الجديد. أما اليوم، فهناك إدارة أميركية جديدة لا تقسم العالم إلى قسمين لا ثالث لهما، ولا تشهر سيفها لمجرد أن تسمع كلمة «لا» تثار في وجهها.

وعلى الطرف المقابل، فإن حكومة إسرائيلية جديدة جاءت مترافقة مع الإدارة الأميركية الجديدة، تنتهج الفلسفة السياسية ذاتها التي كانت الإدارة الأميركية السابقة ترفع لواءها، أي فلسفة تحقيق «إرادة إلهية» معينة على الأرض، وهي إرادة كان بوش يحاول تجسيدها في كل العالم، ويحاول نتنياهو تحقيقها في الشرق الأوسط. ووفق هذه الفلسفة، فإن العقلانية في اتخاذ القرار السياسي تتلاشى، إن لم تختف نهائيا، ويحل محلها الاعتقاد بوجود قوى خفية تقف وراء القرار السياسي وصاحبه، فتجعله في النهاية من المنتصرين، مهما كانت الأسباب العقلانية التي تقول إن للقرار نتائج كارثية تفوق ما قد يكون له من نتائج إيجابية.

هكذا كانت الخلفية الفلسفية لقرارات موسوليني وهتلر، وهكذا كانت قرارات اليمين المسيحي الأميركي الجديد، وهكذا هي قرارات أحمدي نجاد اليوم، وليس من المستبعد أن تلحق إسرائيل نتنياهو بالركب فيما لو «ركبت رأسها»، أو انصاعت لأوهام «ماورائية»، وقامت بعمل معين ضد إيران، لا شك في أن إيران أحمدي نجاد سوف ترد عليها بأوهامها الماورائية الخاصة، وتكون النتيجة في النهاية كارثة على المنطقة والعالم أجمع. صراع «الماورائيات» والأساطير السياسية المهيمنة على العقول من الجانبين، هو الذي يدفع العالم إلى حافة الهاوية، أو الهاوية نفسها، كما فعل من قبل مع «الفوهرر» و«الدوتشي» والرفيق القائد، على سبيل المثال لا الحصر.

فلو قامت إسرائيل بالهجوم على المنشآت النووية الإيرانية مثلا، وهو سيناريو غير مستبعد في ظل معرفة الأوهام والأساطير المعشعشة في العقول، متأسية بتجربتها مع العراق في أوائل الثمانينات، فما الذي من الممكن أن يحدث؟.. لو حدث ذلك، وقامت إسرائيل بالغارة على منشآت إيران النووية، فإن ذلك، واستهلالا لكل شيء، سوف يكون أعظم هدية لأحمدي نجاد والمحافظين المتطرفين في إيران، فمثل هذه الضربة سوف تخرجهم من محنة ما بعد الانتخابات الإيرانية الأخيرة، وتمنح أحمدي نجاد شرعية كاملة لم يستطع إحرازها من خلال الانتخابات. مثل هذه الضربة سوف تؤكد ادعاءات المحافظين من أن إيران «مستهدفة»، وبالتالي فإن حركة الاحتجاج الحالية هي حركة تدمير من الداخل، وليست حركة إصلاح، وبذلك يتوافر مبرر قوي لقمعها بعنف يفوق ما هو ممارس اليوم، على أساس أن البلد أصبح في حالة حرب، وأنه «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة»، وكل معارضة هي بالتالي خيانة لا محالة، وبذلك تكون حركة الإصلاح قد أجهضت، وتكون إسرائيل هي السبب الأول في كل ذلك. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإن مثل هذه الضربة سوف تؤدي إلى جبهة إيرانية موحدة من الداخل، كما حدث حين هاجم صدام حسين إيران في بداية الثورة الإيرانية، فكان ذلك مبررا لقمع كافة التيارات التي شاركت في الثورة، وتفرد الملالي في حكم إيران، وتحول إيران إلى جبهة واحدة في مقابل الغزو العراقي، رغم كل الخلافات السابقة.

بعد ذلك، ووفقا لهذا السيناريو، فإن إيران سوف تقوم بالرد، وهو رد قد يكون مباشرا وغير مباشر، وأثره على المنطقة والعالم سوف يكون كارثيا. فمن ناحية، فإن إيران قد تقوم بضرب المنشآت الحيوية في دول الخليج المجاورة، وإغلاق المنافذ البحرية الحيوية في الخليج، بحجة أن هؤلاء كانوا حلفاء لإسرائيل في عدوانها، ومنحوها تسهيلات معينة لإتمام الضربة بنجاح، خاصة حين يتعلق الأمر بالسعودية على وجه الخصوص. إغلاق المنافذ الحيوية في الخليج يعني خنق العالم، وهو أمر لن تسكت عنه الدول المتضررة، خاصة الولايات المتحدة، مما قد يعني مواجهة مباشرة مع إيران، التي ستصبح في وضع خيار شمشون، و«عليّ وعلى أعدائي يا رب». ومن ناحية ثانية، فإن إيران سوف تقوم باستنفار حلفائها في المنطقة والعالم، من أحزاب الله والمنظمات المؤيدة لها، بفتح جبهات متعددة مع إسرائيل، وتشجيع أعمال إرهابية في كل مكان من العالم، خاصة في الولايات المتحدة وبعض دول أوروبا الغربية. ومع الهجمات الإيرانية المتوقعة على دول الجوار، واستنفار الحلفاء والمؤتمرين بالأمر الإيراني في كل مكان في العالم، فإن شعبية إيران سوف تتنامى في العالم الإسلامي، وهي التي هبطت إلى الحضيض بعد الانتخابات الأخيرة، ويتنامى كره الغرب وإسرائيل، مما يؤدي إلى اضطرابات في العالم الإسلامي سوف ترتد في آثارها السلبية على العالم أجمع. ومن جانب آخر، فإن حركات إسلاموية متطرفة، مثل «القاعدة» وطالبان، سوف تكتسب مزيدا من الشعبية والانتشار، وسوف تكون حليفا لإيران في كل ما تفعل كرد فعل على الاعتداء عليها، وسوف تقوم بدورها بفعل ما «يتوجب عليها فعله»، وما كارثة الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) إلا نموذجا لما يتوجب عليها فعله، ناهيك عن احتمال وصول مثل هذه الحركات إلى السلطة في دول مثل أفغانستان وباكستان، وتهديد الأمن والاستقرار في دول مثل مصر والسعودية.

وبالإضافة إلى كل ذلك، فإن الضربة الإسرائيلية المحتملة لإيران سوف تعيد التوتر إلى العلاقات الدولية من جديد، مما يعيد أجواء الحرب الباردة، وهي الحرب التي جعلت العالم يعيش على أعصابه في كل لحظة من لحظات اليوم. فروسيا مثلا سوف تجدها فرصة للعودة بقوة إلى خارطة القوى الأعظم في العالم، من حيث الوقوف مع إيران مثلا، لمصالح روسية بعيدة المدى. كما أن دولا مثل الصين قد تدخل على الخط في محاولة لإيجاد موقع متقدم لها في عالم الكبار. وبالنسبة للولايات المتحدة والإدارة الجديدة، فإنها ستجد نفسها في موقف لا تحسد عليه. فهي لا تستطيع أن تقف ضد إسرائيل، حتى لو كانت معارضة للحل العسكري في إيران، وتعرضها إلى خطر الزوال، كما أنها لا تستطيع أن تؤيد إسرائيل بالكامل، وهي التي كانت معارضة للضربة العسكرية من الأساس، وتفاقم من كراهيتها في عالم إسلامي لا يحبها بداية، بعد أن بدأت خطوات مصالحة مع هذا العالم، وبذلك يشل القرار السياسي الأميركي، وتعم الفوضى العالم جميعا.

مثل هذا السيناريو محتمل في ظل حكومة إسرائيلية مثل حكومة نتنياهو، لا تختلف كثيرا عن حكومة أحمدي نجاد في إيران، ولكنه ليس حتما بقدر ما هو سيناريو ضمن سيناريوهات، في ظل إدارة مثل إدارة أوباما تختلف كثيرا عن إدارة بوش الابن. لو كانت إدارة بوش هي الحاكمة في واشنطن اليوم، فربما كان هذا السيناريو هو الأقرب إلى الاحتمال، ولكن مع إدارة أوباما يبقى سيناريو بعيد الاحتمال عقلانيا، ولكنه ليس مستحيلا، فالحكومات التي تستند إلى «الماورائيات» في فلسفتها وسياستها، لا تعترف بالمعقول، ولها عقلها الخاص بها، وليس من الضروري أن يكون العقل ذاته المتعارف عليه لدى الجميع. ولكن استبعاد مثل هذا السيناريو لا يعني عدم مناقشته ومحاولة تبيان تداعياته، فالحصيف هو من يتوقع الأسوأ كي يصل إلى الأفضل. وفي النهاية، فإني على ثقة بأن أحمدي نجاد ونظام الملالي وولاية الفقيه ساقط في النهاية لمصلحة العقل والسلام، وأي تدخل خارجي في الشأن الإيراني هو إنقاذ لهذا النظام المتهاوي من الداخل، كما الضرس إذا بلغ فيه التسوس مداه. فليُترك الشعب الإيراني لحل مشاكل إيران، وهو شعب عريق ومتحضر وذو تجربة تاريخية في التغيير جديرة بكل احترام، وكان الله في عون هذا الشعب الذي كلما خرج من حفرة وقع في هاوية.