بايدن والمصالحة: تغير المداخل

TT

اقترنت زيارة نائب الرئيس الأمريكي بايدن للعراق في الأسبوع الماضي، وإن بطريقة إسقاطية، بمشروعه المعروف الذي طرحه عام 2007 عندما كان رئيساً للجنة العلاقات الخارجية في الكونغرس والذي أثار مخاوف ورفضا آنذاك، حيث فهم بأنه دعوة لتقسيم العراق إلى ثلاث دويلات كردية وسنية وشيعية، لذا فإن هذه الهواجس استعيدت الآن عندما كلف من الرئيس أوباما للعمل على المساعدة في ملف المصالحة الوطنية، لكن غير المستغرب هو مراوحة أو ركود العقل الخائف المتوجس الذي لا يريد أن يلحظ أي تطور في الظروف ولا حتى في موقف طرفي المعادلة، أي الإدارة الأمريكية من جهة والوضع العراقي من جهة ثانية، وهذا يذكرني بالرفض والتشكيك النمطي بأي دعوات أمريكية أو غربية للحث أو لدعم الديمقراطية، لكون أن الغرب قد ساند في النصف الثاني من القرن الماضي أنظمة دكتاتورية، مسقطين تغير الإدراك الغربي واستخلاصه لاحقاً بأن التعاطي مع أنظمة مقبولة من شعوبها وتمتلك شرعية، خير من التعاطي مع أصدقاء واتباع دكتاتوريين وأن ذلك أضمن لمصالحه، وبمقدمتها الهدف الذي بات الأهم وهو الاستقرار والأمن العالمي، ناهيك عن المفارقة التي لا يجدي التذكير بها وهي أن هذه الدكتاتوريات هي من نبت بيئاتها ومن صنع شعوبها التي تديمها بإذعانها، وهي بالتالي ليست منتجاً غربياً ابتداء، وهذا هو تحديداً مشترك القياس، فبايدن عندما عرض مشروعه آنذاك، الذي نال اللعنات، والتي كانت في جانب منها مفيدة! حيث حفزت الوطنية العراقية التي هي بحاجة لمؤامرة لتتكتل ضدها، مشروعه المستند على رؤية أنه يجب الاختيار ما بين سلطة مركزية في بغداد أو ما بين سلطة موزعة، وبالتالي الاستنتاج بأنه كلما تركزت السلطة في بغداد فإنها تعزز وتفرز قتالاً طائفياً حول هذه السلطة، لذلك فإنه لا بد من تقسيم السلطة بين المكونات والتي فشلت في التشارك فيها، وفي ذهن واضعي ومؤيدي الخطة القياس على تجربة البوسنة والهرسك على أمل أن يحقق القرار ما نجحت في تحقيقه اتفاقات دايتون التي أقرت التقسيم بين المتخاصمين الصرب والكروات والبوسنيين والتي قلصت التوتر عندما حكمت هذه المكونات نفسها بنفسها.

لذا فإن تغير مهمة بايدن الآن تأتت ببساطة من كوننا نحن تغيرنا، فقد نجحنا في الابتعاد عن حرب أهلية كان لا يعوزها إلا الإعلان فقط، ومن هنا تغيرت مهمة بايدن من حل لبلد لا يعيش إلا بعزل مكوناته إلى المعاونة في إصلاح العلاقة بينها بجعلها منصفة ومرضية لأطرافها. فهذه المصالحة تبدو بأنها أصبحت مصالحتين؛ الأولى هي التي اهتمت بإدماج المقاطعين للعملية السياسية وبانخراط الجماعات المسلحة بالعمل السلمي، وبإيجاد التشريعات لضم من أقصوا وتحقيق التوازن في الأجهزة، خصوصاً في الجيش والشرطة لجعلها ممثلة للجميع وموضع ثقتهم وتطمينهم، واحتواء وتوفير فرص عيش بديلة للذين انتفضوا ضد القاعدة، الحكومة من جهتها ترى أنها قطعت أشواطا تشريعية وتنفيذية في تحقيق ذلك، والأهم من ذلك أن النسيج المجتمعي عاد وتصالح واقترب من التعايش كما كان في سابق عهده، والفضاء الديمقراطي ودورية الانتخابات بمستوياتها المتعددة وتداولية السلطة تتيح الالتحاق السياسي بها وتبقي الباب مفتوحاً للانضمام إليها في كل مقطع، لذا باتت هي الإطار الوحيد المقبول لتوزيع الاستحقاق السياسي وتعيين حجوم المشاركة في السلطة، وبالتالي عدا ما خارج ذاك فإنه سيوقظ الخشية والارتياب ويحفز المخاوف المتوجسة من جلب حلول إقليمية أو دولية وفرضها كتسويات ومساومات ومن منح استرضاءات لأطراف ناهضت في العملية السياسية. أما المصالحة الثانية وهي التي يبدو أن الطرف الحكومي أو المركز طلب من بايدن المعاونة فيها فهي التوسط في حل الاتفاقات حول الملفات العالقة وممارسة الضغط الأمريكي لتليين المواقف، وبالتحديد على تلك الأطراف التي لا تريد أن تتنازل عما حصلت عليه في لحظة التأسيس التي أنتجت دستوراً متعجلاً كمحصلة لاختلال موازين قوى الأطراف التي وضعته، والذي أثبت التطبيق اللاحق احتواءه على مواطن الالتباس المنتجة لنزاعات مستقبلية ولنظام حكم وإدارة مشلولين ومعاقين، كما لا يزال هناك عدم تفاهم لحل قضايا سياسية رئيسية تقسم رؤى المجتمع العراقي، كالعلاقات بين الإقليم والمركز، والمناطق المتنازع عليها، وفي صدارتها مشكلة كركوك والتي هي تكفي لوحدها بما تختزنه أن تدفع بحزمة من المخاوف ذات الأوجه العدة المتمثلة بتلك بين مكوناتها الرئيسية من كرد وعرب وتركمان، بين العراق وقوى الإقليم، بين وحدة العراق وتفككه، بين استقرار المنطقة برمتها أو اضطرابها. أيضاً حل مشكلة الفهم الغامض والمتنازع لمسألة توزيع الموارد وإدارتها بما يجنب إنتاج مناطق محرومة وتكون ملجأ لليأس والنقمة. هذه المشاكل التي كان يتم الهروب منها، لا بد من أوان مجابهتها، والدور الأمريكي فيها فاعل ومطلوب لما يمكن أن يمثله كضامن وضاغط على الأطراف، لخلق بيئة تدوم فيها عوامل الاستقرار وتضمر وتتلاشى نقاط التفجر، إذ لا يمكن للأمريكان أن يغادروا ويتركوا خلفهم أطراف وإن بدت للآن أنها تركن للحوار إلا أنه أيضا إذا ما استمر حوارها بلا نهاية فإنه يتساوى مع عدمه.

لمقارنة المصالحة الأولى مع الثانية، فالأولى كانت بين السنة والشيعة، في حين الثانية بين المركز والإقليم والذي حدث هنا أن يكون كردياً، وبالتالي مع ذاك ليس من المصلحة جعله بين الكرد والعرب حتى وإن بدا للبعض ضرورياً وفرصة لإعادة لحمة وتوفير اسمنت لاصق لوحدة مفقودة بين أطراف المكون العربي، فإن ذلك فضلا عن كونه ضارا وآخر ما يحتاجه العراق، فإنه أيضا غير أخلاقي، إلا أنه مع ذلك فإن اللافت الإيجابي في هذه المقارنة أنه في الوقت الذي شهدنا الصراع الأول كان غرائزيا، فإن الصراع الثاني سياسي، والأول كان صراع بقاء، الثاني لتحسين شروط البقاء، الأول تصارع على التاريخ الثاني على المستقبل، الأول استخدم العنف الثاني وسيلته الحوار، لذا فالولايات المتحدة لا تجد نفسها مندوبة للعب هذا الدور بالمعاونة في استقرار النظام السياسي، بل هو بات مفتاح خروجها مطمئنة من عراق مستقبله واعد.