بالعربي

TT

قلبي على لغتي انفطر وقلب شبابنا عليها حجر. مع اعتذاري لصاحب المثل الشعبي الشهير الذي يوصف لعلاقة الوالد بالمولود. أحكمت القافية قبضتها علي وأنا أشاهد برنامجا تليفزيونيا على قناة فضائية عربية اختارت عنوانا إنجليزيا كتسمية. وسمعت مذيعتين تتحدثان عن جوائز خصصتها تلك الفضائية لتكريم السينمائيين، فإذا بالمذيعة تتكلم عن الافيش أي الإعلان الترويجي والتترات أي مقدمة الأفلام وكأن سيبويه والبحتري وأبا العلاء كلهم ولدوا وترعرعوا في بيت بابا تشرشل وماما ثاتشر.

اعتراني الهم وتداعت الأفكار لأتذكر إحدى قريباتي تخبرني بأن ابنتها الطفلة بنت العاشرة انتظمت في المدرسة البريطانية الدولية لأنها «مدرسة كويسة» رغم أن الإدارة اشترطت على الآباء ألا ينتظروا أن يتضمن المنهج اللغة العربية. والعجيب أن هذه المدرسة بمبانيها ومعلميها ومعلماتها ومصروفاتها الباهظة لا توجد في لندن أو برمنجهام بل في عاصمة عربية إسلامية معروفة جدا.

في زيارة قصيرة لمصر تلقيت هدية هي تسجيل لأغاني الموسيقار محمد عبد الوهاب في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي. وأمضيت أوقاتا شديدة الخصوصية في الاستماع إلى الموسيقى الجميلة والصوت العذب والكلمات الراقية النابعة من رحم لغة عربية ثرية. فالأغنية نموذج فني تنعكس من خلاله ثقافة العصر ووجدان الفرد في أي زمن. وتراءت لي أطوار التغيير التي طرأت على الثقافة المصرية منذ ذلك الحين. وبدون تدبير عقدت في ذهني مقارنة بين ما غنى عبد الوهاب في ذلك الزمن وبين الأغاني الشائعة هذه الأيام. في أغاني عبد الوهاب يشدو الحبيب بكلمات راقية مهذبة وكأنه يقدم قربانا في محراب الهوى. فها هو يقدم نفسه في أغنية أعجبت بي فيقول:

أعجبت بي بين نادي قومها ـ ذات حسن فمضت تسأل بي

سرها ما علمت من خلقي ـ فأرادت علمها ما حسبي

لا تخالي نسبا يخفضني ـ أنا من يرضيك عند النسب

هذه الكلمات توظف نسيجا قيميا يحسب حسابا للأخلاق ولانتماء الفرد. ثم غنى عبد الوهاب همسة حائرة عن حبيب

يبيت يوضع سمع الليل عاطفة ـ ضاق النهار بها سترا وكتمانا

وهي استمرار لعرض القيم التي تحث المحب على ستر العاطفة تعففا. وها هو يحلم بجلسة على شاطئ النيل فيقول:

وحولنا الليل يطوي في غلائله ـ وتحت أعطافه نشوى ونشوانا

لم يشهد الرافد الفضي قبلهما ـ إلفين ذابا تباريحا وأشجانا

نكاد من بهجة اللقيا ونشوتها ـ نرى الدنى أيكة والدهر بستانا

ونحسب الكون عش اثنين يجمعنا ـ والماء صهباء والانسام ألحانا

أين هذا الشاعر الرقيق؟ وأين تلك العاطفة السامية من أغاني هذه الأيام التي لا تعدو كونها وصلات ردح أو دعوة للدخول في دهاليز الغرائز الدنيا بلا حياء ولا أدب.... منها: العب العب العب. ومنها: أنا كدة طبعي كدة ومعنديش الا كدة. ومنها شوف بقى أنا ماجيش أنا بالطريقة دي. ولعل أفظعها صفقة تحاول واحدة من إياهم أن تعقدها مع مخدومها قبل أن توافق على الصعود معه إلى « الروف» والروف لمن لا يعرف هو سطح البناية حيث لا رقيب ولا حسيب. يقال إن اشد الحرائق تبدأ من مستصغر الشرر. أن نتهاون في تعليم الأجيال الجديدة اللغة الأم هي أن نتنازل عن هوية ثقافية ودينية وتاريخية تحسدنا عليها الأمم. ولكن من يجرؤ على الكلام؟ أخشى أن يأتي يوم نضطر فيه إلى ترجمة الفن والأدب العربي الحديث إلى العربي الأصلي لكي نفهم من أين أتينا والى أين نحن ذاهبون.