حليب العصافير

TT

هناك قناعة يتداولها الأهالي قديماً تقول: (نفس تعاف ما تسمن) ـ أي أن الإنسان الذي يشمئز أو يتردد في أكل كل ما يعرض عليه لن يسمن ـ وبحكم أنني من هذا الصنف الجبان من الناس، فقد ظللت طوال حياتي نحيفاً ومحروماً من أصناف الأكل الغريبة وكذلك من السمنة. بعكس بعض الشجعان الذين لا يستنكفون عن أكل وشرب أي شيء جديد، وذلك على مبدأ (العلم بالشيء).

وقد سبق لي أن رفضت أن آكل مع أحدهم (بيضة نعامة) مسلوقة، ورفضت أن أشرب كوباً من الشاي البارد ممتلئ بمكعبات الثلج ـ وهذه أشياء بسيطة، فما بالكم بما هو (أدهى وأمر)؟!

وكراهية بعض الشعوب والطوائف لبعض المأكولات معروفة، وكان إلى وقت قريب بادية الجزيرة العربية لا يأكلون الأسماك إطلاقاً، ولو أنك عزمت أحدهم وقدمت له أسماكاً لاعتبرها إهانة له.

بل إن شعباً كشعب (فيتنام) مثالا، كانوا كذلك إلى وقت قريب لا يشربون الحليب لأنه خارج من البقرة، فروجت السلطات وبعض الشركات في السوق حليب البقر الناشف والمعلّب، منوهة إلى أنه (حليب العصافير)، وأقبل عليه الناس وما زالوا يشربونه.

ومن ذكرياتي التي لا تنقطع، أنني ذهبت إلى زيارة شخصية مرموقة تسكن في أحد الفنادق في الخارج، والحق يقال إن الرجل كبير في سنه وحجمه وأخلاقه وتدينه.

عندما وصلت كانت الساعة الثانية عشرة ظهراً تقريباً، ووجدته جالساً في صالون الفندق ومتحلقا حوله بعض مرافقيه، وحيث إنه متعود على تناول غدائه مبكراً، فعرض علينا أن نرافقه إلى بوفيه المطعم، فاعتذرنا منه فذهب هو وحيداً، وبعد ساعة رجع إلينا، وقال لنا دون أن يجلس: لا يفوتكم (ربيان ملفوف بشرائح اللحم)، فقد أكلت منه كثيراً، ولم أذق في حياتي أطعم منه، قال لنا ذلك ثم أخذ المصعد لكي يرتاح في جناحه، وبعد نصف ساعة توجهنا جميعاً إلى المطعم، وفوجئنا أن الصنف الذي نصحنا ذلك الشيخ أن نأكله ما هو إلا (ربيان) فعلا، ولكنه ملفوف بشرائح لحم الخنزير دون أن يدري، فخطر لأحدهم أن يصعد إلى جناحه ويخبره عن ذلك، فأمسكت به قائلا: إياك أن تفعل ذلك، فلو أنك أخبرته الآن فمن المحتمل أن تكون ردة فعله سيئة وتؤثر حتى على قلبه، ولكن حذره في اليوم الثاني واشرح له محتويات ذلك الصنف من الطعام لكي يبتعد عنه.

وروى لي أحد الإخوة من الخليج وهو اليوم موظف كبير، أنه ركب طائرة أجنبية ومعه والده رجل الدين الكبير للذهاب إلى إحدى الدول الأوربية بقصد علاج والده، وكان ذلك في أوائل السبعينات، ويقول: بعد أن أقلعت الطائرة وأعلنوا فك الأحزمة، نهضت من كرسيّ في الدرجة الأولى وذهبت للدرجة السياحية لأشرب (سيجارة) تحرّجاً من والدي الشيخ ـ وفي ذلك الوقت كان مسموحاً بالتدخين في الطائرات ـ وبعد فترة انتهيت ورجعت إلى والدي، وإذا بي أتفاجأ أنه ممسك بكأس طويلة ويرتشف منها بلذة واضحة وبحبور زائد، وما أن شاهدني حتى قال لي ببراءة: إن المضيفة أتت لي بهذا العصير اللذيذ، فاطلبه ولا يفوتك، فسألته مفجوعاً: كم مرة شربت منه؟! فقال: هذه الكأس الثالثة، فقلت له: انتبه يا بوي هذه (شمبانيا)، فسألني متعجباً: ما هي الشمبانيا؟!، قلت له: إنها نوع من الخمر، فشهق شهقة خلت أن أنفاسه قد انقطعت، وإذا بالكأس تسقط من يده لا شعورياً ويندلق على ملابسه ويسيح على الأرض، وقام متحاملا على نفسه بمساعدتي وذهب للحمام وأفرغ كل ما في بطنه.

الحق كله مع فضيلة الشيخ، ولو أنني كنت في مكانه، لفعلت اكثر من ذلك.

[email protected]