حرية «التعبير»!

TT

أتحدى أن يكون لدى الغرب حرية تعبير مثل حرية «التعبير» التي نتمتع بها في بلاد العرب. حرية التعبير في الغرب تحدها في النهاية معايير صارمة، أما عندنا فحرية التعبير لا حدود لها لأنها ببساطة مرتبطة بالوهم. هكذا تعلمناها ومارسناها منذ نعومة أظافرنا بدءا من حصص مادة التعبير المدرسية، فكان يقال لنا في المدارس الابتدائية اكتبوا موضوع تعبير عن فصل الربيع مثلا، ونسرح بخيالاتنا وأوهامنا، نحن صغار الصعيد الذين لا نعرف من الربيع إلا اسمه، ونكتب عن الخمائل وعن الزنابق وعن حفيف أوراق الشجر عندما يهزها النسيم بينما تداعب خدودنا قبلات المطر الخفيف، كنا نحيا بالقرب من الصحراء الغربية، حيث لا خمائل ولا أزهار ولا زنابق ولا حفيف أوراق ولا حتى قبلات مطر، كان عالما خياليا اخترعناه من الروائح والنباتات ودرجات الحرارة وأسقطناه على واقعنا فصدقنا وهم الخمائل، بينما كانت أقدامنا الصغيرة الحافية تتلظى من لهيب حر الصعيد الحقيقي ونحن نقطع الطرقات في الظهيرة.

أذكر عندما قرأت قصيدة شكسبير لأول مرة وهو يقول لمحبوبته: «هل يمكنني أن أشبهك بنهار صيف، ولكنك بالطبع أجمل وأرق»، لم أكن أصدق أن يشبه أحد محبوبته بنهار الصيف، فنهار الصيف عندنا في الصعيد أشبه بجهنم، فهل كان شكسبير كارها لمحبوبته بكل هذا القدر؟ بالطبع لا، ولكن لا يدرك جمال الصورة إلا من عرف الصيف الإنجليزي الناعم والذي يأتي في الغالب بعد شتاء قابض وكئيب. الصيف عند الإنجليز هو أقرب إلى حديثنا عن الجنة، لكن هذه الصورة كانت غريبة علي أنا الجنوبي الذي احترق جلده بشمس الصعيد الملتهبة. شكسبير استخدم الصورة التي تعبر عن واقعه المناخي والبيئي. وبالطريقة نفسها التي استغربت فيها صورة شكسبير التي تشبه محبوبته بالصيف، لم أكن أيضا قادرا على تصور عالم البحتري رغم جمال وروعة صورة وهو يقول:

أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكا/ من الحسن حتى كاد أن يتكلما

النيروز في غسق الدجى وقد نبه/ أوائل ورد كن بالأمس نوما

يفتقهـا بـرد الندى/ يبث حديثا كان قبل مكتما

فكأنه فمن شجر رد الربيع لباسه/ عليه كما نشرت وشيا منمنما

ورق نسيم الريح حتى حسبته/ يجيء بأنفاس الأحبة نعما

صور شعرية رائعة تصف ربيعا رائعا، ولكن لا علاقة لها بربيع مَن تربى في صحراء ليبيا أو في حر سيناء أو في الصعيد أو السودان.

وكم من أوهام، مثل وهم الربيع المتخيل، قد صدقناها. فهل الأمة العربية الواحدة ذات الرسالة الخالدة هي خارج إطار الوهم، بينما يعيش العرب في أقطار مختلفة تحكمها أنظمة وقوانين مختلفة ومصالح مختلفة وتطلعات مختلفة، إن لم نقل متضاربة؟ ولكنا نصدق وهم الخمائل على واقع القيظ، ونصدق وهم العروبة ضد واقع الدول والتأشيرات وجوازات السفر. كثيرون منا من يفضلون أن ينافحوا على ما يجب أن تكون عليه أحوال العرب ويرفضوا الواقع. لدينا حرية مفرطة في التعبير، التعبير عما هو ليس بواقع، ولا يمكننا التعبير عن واقعنا. ومن هنا أقول بأن حرية التعبير عندنا في العالم العربي مكفولة جدا، نكتب ما نشاء عما هو خيالي ولا نمس الواقع بشيء. من حق الشعوب العربية أن تحلم بالأمة الواحدة، ولكن الخطورة تكمن عندما يعيش الناس في الوهم، والخلط بين «التعبير» والتعبير، هو أول ملامح أمراض الوهم.

حتى عندما سمينا التعبير إنشاء، بمعنى التأليف والإبداع، تحولت كلمة إنشاء إلى معنى الكلام الفارغ، يقال إن هذا «كلام إنشا» أي أنه حشو وليس له معنى، أي كلام فارغ، رغم أن الأصل في كلمة إنشاء هي أن تنتج عمرانا للكلام كما ينشئ المهندسون البيوت، فترسم شيئا جديدا، نوعا من الابتكار والإبداع، لكننا بقدرة قادر حولنا الشيء إلى نقيضه فبدلا من أن تصبح كلمة إنشاء تعني البناء الجديد والابتكار في المضمون واللغة، أصبحت كلمة إنشاء تعنى الكلام الذي لا معنى له أو الكليشيهات الجاهزة. وضمن هذا المعنى المغلوط للإنشاء، يكون لدينا ما يكفي في العالم العربي من حرية الإنشاء وحرية التعبير، أي من حقنا أن نقول ما نريد طالما أنه مجموعة من العبارات المكررة الممجوجة التي لا تعير عن واقع، شيء أشبه بخمائل الصعيد وزنابقه وحفيف أوراق الشجر عندما تهزه الريح بينما تداعب خدودنا قبلات المطر الخفيف. حرية التعبير بهذا الشكل (الوهمي) مكفولة في العالم العربي، لغة يتحدثها المثقفون، والصحافيون، والسياسيون، وبهذا الترتيب. لكنها حرية «تعبير» وحرية «إنشا»، ومن ظن غير ذلك فهو واهم.

إذا كانت حرية التعبير تعني التعلق بالوهم، فماذا عن حرية الرأي؟

حرية الرأي عندنا مكفولة طالما بقي الكاتب العربي في عالم التجريد، أي أن يتكلم في قضايا كبرى مثل الصراع بين الشرق والغرب وعن مسألتي الإيمان والإلحاد، قضايا بعناوين عريضة، أو أن يدخل في مشتمة مع كتاب آخرين أو مثقفين أو أفراد ممن لا شأن لهم بتشكيل الواقع السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي. أي أن الكاتب العربي يبقى يتحدث في المطلق من دون التركيز على القضايا اليومية البسيطة التي تهم البشر، وفي كل الحالات لا يتعرض لمن بيده أمر السياسات وصنع القرار. الكتاب العرب فنانون تجريديون بالمطلق. حرية (الراي) أي الموسيقى الشعبية الجزائرية أوسع بكثير من حرية (الرأي) لدى كثير من كتاب الجزائر مثلا. لا بد للكتاب العرب اليوم أن يفتحوا حوارا عن حرية التعبير وحرية الرأي، حرية التعبير الحقيقية لا حرية «التعبير» التي كبرنا عليها في المدارس. ففي كتاباتنا اليوم، لا يمكننا أن نذكر بالاسم رئيس الوزراء في مقال نقدي، وأنا سأقبل باحترام رئيس الوزراء وتركه بعيدا عن النقد.. لكننا لا نستطيع أيضا أن ننتقد أي وزير لديه ونسميه باسمه، ونقدم له تقييما حقيقيا.. ومع ذلك، (ما علينا)، فالوزير شخص مهم، ويمكننا اعتباره فوق النقد والمساءلة.. ولكن ألا يحق لنا انتقاد نائب الوزير، أو وكيل الوزارة، الذي من المفترض أنه شخصية عامة تؤدي مهمات تتصل بهموم وآمال المجتمع، ولهذا المجتمع الحق في مراقبة أدائها للمسؤولية المناطة بها، ولكن لا نستطيع الكتابة عن نائب الوزير أيضا! إذن، فلنكتب عن مدير الإدارة في مؤسسة ما، أليس هو الشخص المسؤول إداريا عن دوران عجلة العمل اليومية لهذه المؤسسة، كي تسير شؤون الخلق بسلاسة، ومن هنا يتوجب علينا أن نفتح عيوننا جيدا على قراراته وتصرفاته؟ ومع ذلك لا نستطيع الكتابة عن حضرة المدير! هذا إذا كان الحديث عن النقد داخل الدولة الواحدة، والأمر نفسه ينطبق على القدرة على النقد بين الدول العربية المختلفة.

كثير مما يكتب في العالم العربي اليوم والذي يصوره أصحابه على أنه نضال وبطولات، هو كتابة «تجريدية» تهرب من حقائق الواقع إلى خمائل الوهم. كثير مما نقرأه اليوم لا يمكن وصفه إلا بـ «الإنشا» أو «التعبير» بالمعنى المدرسي لحصص التعبير التي كنا نطلق لخيالاتنا وأوهامنا العنان فيها.. تربينا بلا شك على حرية «التعبير»، ولكن لا توجد لدينا حتى الآن حرية تعبير. من حق الشعوب أن تحلم ولكن الخطورة تكمن عندما يعيش الناس في الوهم، والخلط بين «التعبير» والتعبير، هو أول ملامح أمراض الوهم.