معضلة تأليف الحكومة اللبنانية

TT

عند كل استحقاق مهم تعود الساحة اللبنانية إلى المربع الأول، وذلك من ضمن المعادلة التي تقول إن لبنان لا يملك سياسة خارجية أو حتى داخلية، لا بل إن كل سياسات لبنان هي إقليمية بامتياز.

بعد الانتخابات عاد الكل إلى أرض الواقع السياسي، كما تبدل الخطاب الانتخابي إلى خطاب سياسي، فقط لأن السياسة هي فن الممكن، كما هو معروف.

تميز موقف حزب الله بصراحة عالية عندما اعترف السيد حسن نصر الله بخسارة المعركة الانتخابية. لم ينسحب هذا الوضع على حليفه العماد ميشال عون الذي اعتبر أنه انتصر، خصوصا أن عدد كتلته قد ارتفع إلى 27 نائبا، بعد انضمام الأمير طلال أرسلان والوزير السابق سليمان فرنجية إليه. لكن الأكيد أن أي مقاربة رقمية للتوازنات، تدل فعلا على أن الغالبية بقيت غالبية حتى الآن على الأقل، هذا إذا لم يأتِ الوزير وليد جنبلاط بمفاجآت جديدة من العيار الكبير، خصوصا أن هناك الكثير من المؤشرات لذلك.

على ماذا تقوم المعادلة السياسية اليوم في لبنان؟

باختصار، وبسبب نتيجة الانتخابات، لم تتغير المعادلة السياسية عما كانت عليه قبل الانتخابات. فحينها كان هناك غالبية نيابية، استمرت هي هي بعد الانتخابات. كما استمرت الأقلية كأقلية. لم تستطع الغالبية أن تحكم قبل الانتخابات، فقط لأن المعارضة كانت قادرة على التعطيل سواء عبر الاعتصامات، أو عبر إغلاق المجلس النيابي. وهي اليوم، أي الغالبية، تبدو أيضا غير قادرة على الحكم منفردة، فقط لأن المعارضة لا تزال قادرة على التعطيل، حتى ولو استلزم الأمر سلوكيات عنيفة وغير ديموقراطية.

من هنا، وبسبب ذلك تبرز معضلة تأليف الحكومة الجديدة. فما هي المشكلات أمام التأليف؟

في البعد المحلي:

تتعلق المشكلة الأولى بالمفاهيم السياسية، خصوصا ما يتعلق بالديموقراطية في لبنان. فحسب المفاهيم الأساسية في العلم السياسي، على الغالبية أن تحكم، وعلى المعارضة أن تعارض، تراقب الحكومة وتحاسبها. كل هذه المفاهيم لا تسري على حالة لبنان. فالمعارضة تطالب بالشراكة، وتريد في الوقت نفسه أن تبقى في صفوف المعارضة.

تندرج المشكلة الثانية في توزيع الحقائب على الأفرقاء. فهناك حصة الموالاة، وحصة المعارضة وحصة رئيس الجمهورية. لكن كيف؟

ـ تطالب المعارضة بالثلث الضامن ـ المعطل إذا صح التعبير ـ بكلام آخر، تريد ما يقارب 11 وزيرا من الحكومة إذا كانت الحكومة ثلاثينية. وبذلك تكون قادرة على منع التصويت على أي قرار لا تريده، أو حتى إسقاط الحكومة إذا استقالت منها.

ـ يطالب قطب المعارضة الأبرز الجنرال ميشال عون بتمثيل نسبي لكتلته ـ 27 نائبا ـ وهذا أمر يتعارض مع روح الدستور، لأن التمثيل في الحكومة يتم عادة باعتماد التوزيع المذهبي. وفي هذه الحالة، لا يمكن للجنرال عون أخذ مقاعد وزارية ليست للمسيحيين، حتى لو كانت كتلته تضم غير مسيحيين.

ـ ترفض الموالاة إعطاء المعارضة الثلث المعطل، لأن التجربة السابقة غير مشجعة، وهذا أمر يعطل الحكم بشكل عام. وهنا تقترح الموالاة إعطاء رئيس الجمهورية الثلث المعطل، كونه الحكم بين الأفرقاء، لكن المعارضة ترفض إعطاء هذا الثلث للرئيس نظرا لعدم ثقتها به بعدما اتهمته بالتدخل في الانتخابات النيابية الأخيرة.

ـ وهنا، يأتي دور رئيس الجمهورية الذي عبّر عنه في خطاب ذكرى مرور سنة على تولّيه الحكم. فهو يعتبر نفسه توافقيا وتوفيقيا، أي يريد إيجاد الحلول في حال تعذر الحلول بين الموالاة والمعارضة. ولن يقبل الرئيس حكومة لا تعكس تركيبة لبنان وصورته. وحسب ما يظهر من سلوكية الرئيس، أنه يريد أكثر من ثلاثة وزراء ليكون قادرا على إدارة الحكم.

ـ وفي حال الموافقة على إعطاء الرئيس أكثر من ثلاثة وزراء، فمِن حصة مَن سيأخذها؟ من حصة الموالاة أو المعارضة؟ ومن أي مذهب؟ وأية حقائب؟ هل ستكون حقائب سيادية، أم عادية، أم حتى وزراء من دون حقائب؟

ـ سيكون هناك صعوبة في إرضاء كل الكتل النيابية المستجدة والتي بدأت تظهر، مثل انضمام النائب إميل رحمة المنتخب عن دائرة بعلبك ـ الهرمل إلى كتلة زغرتا. إذ تسعى هذه الكتل إلى تمثيل نفسها في الحكومة. لكن كيف؟

ـ كذلك وفي حال نجاح التأليف، يبقى الخلاف على مضمون البيان الوزاري، خصوصا في ما يتعلق بسلاح الحزب. طمأن الرئيس المكلف الحزب، لكن رد الحزب كان أنه لا يثق بأحد، وهو يريد حتما الثلث المعطل.

ـ أخيرا وليس آخرا، يبقى موضوع طاولة الحوار في مرحلة ما بعد التأليف وأخذ الثقة. فهل ستستمر طاولة الحوار؟ ومن سيشارك فيها؟ خصوصا بعد الذي أفرزته الانتخابات الأخيرة من موازين قوى جديدة.

في البعد الإقليمي:

يندرج التحدي الأبرز أمام الرئيس المكلف، في كيفية التعامل مع الجارة سورية بعد كل العداء الذي استفحل منذ العام 2005. فهو ملزَم أمام قاعدته الشعبية التي عُبئت ضد سورية بتبرير سلوكه الجديد. كذلك، يبدو أن لسورية قدرة على منع التأليف. فما هو الثمن الذي تريده سورية للتسهيل؟ وما هو الثمن القادر، والمستعد لدفعه الرئيس المكلف؟

كذلك، تدخل الأزمة الإيرانية المستجدة كعامل غير متوقع. فكيف يكون الوضع في إيران؟ وكيف ستتصرف إيران تجاه التأليف إذا شعرت بأنها مهمشة؟ وكيف سينعكس السلوك الإيراني على سلوك حزب الله حليفها الأهم في لبنان؟ وكيف سيكون التنسيق الإيراني ـ السوري، هذا إذا كان هناك تنسيق؟

لكن اللاعب الأهم يتمثل في المملكة العربية السعودية. فهي تريد النائب الحريري رئيسا للوزراء. لكنها تعرف أن كلمة السر هي في سورية. فكيف ستتصرف حيال سورية بعد الجفاء منذ العام 2005؟ وما هو الثمن الذي ستدفعه المملكة، وهي التي تعرف أن هناك صعوبة كبيرة في قدرتها على فسخ التحالف السوري ـ الإيراني الاستراتيجي؟ وهل فعلا تدير المملكة ظهرها لإيران في سعيها لتسهيل التأليف، أم أن هناك قنوات سرية سعودية ـ إيرانية؟

في الختام، وفي ظل التعقيدات الإقليمية، يبدو أن التأليف سوف يتأخر لفترة غير قصيرة. فالأمر مرتبط بنضج الحلول الإقليمية حتما، وهي التي ليست قريبة، خصوصا بعد الأزمة في إيران. لذلك لا يجوز انتظار الحلول المثالية، الأمر الذي قد يبشر بحكومة ليست على مستوى طموحات اللبنانيين. لكن الأمر الكارثي للبنان، هو في أن مؤسساته الرسمية قد أصبحت معولمة، ومؤقلمة حتى على مستوى اتخاذ القرار.

* عميد متقاعد في الجيش اللبناني وباحث أكاديمي