آفة «المعصومية» تُتلِف المؤسسة الرئاسية

TT

يحلو لدى بعض المستشرقين الأوروبيين منح الفقه الشيعي امتياز الانفتاح والتجديد في الاجتهاد. وقد تأثر بعض المفكرين لدينا بهذه الرؤية المتحيزة التي تدمغ الفقه السني بالجمود والانغلاق. وفي مقدمة هؤلاء، المفكر محمد أركون الناطق بالفرنسية.

أركون ذو الأصل الجزائري الأمازيغي (البربري) كاتب صعب. لكن له حظوة لدى المفكرين الفرنسيين المهتمين بالاستشراق والعالمين العربي والإسلامي، بحيث يبدو أكثر تعقيدا في الشرح والتفسير من المستشرقين القدامى.

المفكر المغربي عابد الجابري ينطلق، في تحليله الفكر العربي، من موقف متعاطف مع إسلامويته الذاتية، بحيث يبدو كاتبا يمينيا شديد المحافظة، الأمر الذي يأخذه عليه المفكر المترجم جورج طرابيشي، فلاحقه في النقد وتلمس «السقطات» بلا هوادة، منذ سنين.

جورج ينطلق، في نقده للجابري، من موقفين اثنين: كونه مفكرا قوميا عربيا متحمسا، ثم لاحقا كاتبا مرتدا إلى مسيحيته المتخوفة على وجودها المشرقي، من الجرف الإسلامي الذي يجتاح المجتمعات العربية والإسلامية. جورج يري في موسوعية الجابري تكييفا للعقل العربي في الاستسلام للانجراف نحو إسلام سنّي شديد المحافظة والتزمت، وكارها وطاردا لأقلياته المسيحية العربية والمستعربة.

أركون لا ينطوي على تعاطف الجابري مع إسلاموية الفكر العربي. أركون يغلّف بذكاء موقفه السلبي بموضوعيته «الأوروبية» التي تري، من موضع الاستعلاء التقليدي، في التزمت الديني ظاهرة فكرية واجتماعية متخلفة.

أذكر أني كنت في زيارة للراحل الكبير صائب سلام، في دارته في الريف الفرنسي. فوجئت على طاولته في الحديقة بكتاب أركون بالفرنسية ( la pensée Arab الفكر العربي). وكان سلام الزعيم الشعبي البيروتي قارئا ممتازا تغطي على ثقافته اهتماماته السياسية.

بدا الصديق الكبير، وكأنه يعتذر عن عدم قدرته على فهم أركون، في تحليله، وفى تحيزه ضد الفقه السني. كنت أنا قبلا قد قرأت الكتاب، وهو ما زال في مكتبتي إلى اليوم. وشعر صائب سلام بأنه على حق، عندما وافقته على أن أركون صعب على الفهم، وكاتب منحاز.

أحببت أن تكون هذه المقدمة الطويلة مدخلا إلى مبدأ «المعصومية» في الفقه الشيعي. لا أعثر على «الانفتاح» الذي عثر عليه بعض المستشرقين في هذا الفقه. فهو في تخصيصه آل بيت النبي باحتكار الزعامتين الروحية والسياسية، يغلق أبديا الباب أمام ديمقراطية الانتخاب الشعبي للقيادات.

لست أدافع عن الفقه السني. هو كالفقه الشيعي، في اعتماد اجتهاده على تقليد واستنساخ الفقه القديم، لكن مع إيلاء الفقه السني رجال دينه امتياز احتكار الاجتهاد وإلى الآن، بحجة «علمهم» فيه، فهو لا يخصهم بمعصومية، كتلك التي يتمتع بها رجال الدين الشيعة.

هذه المعصومية تضفى مظلة «قداسية بابوية» على «آيات» الشيعة الكبار، وتمنح ملالي.. الحُجَّتية الأدنى رتبة، مهمة التدخل والتوسط في العلاقة بين المؤمنين والسماء، وهو أمر لا يمنحه الفقه السني لرجال الدين السنّة.

أيضا، في الرد على أركون والاستشراق المعجبين بـ«انفتاح» الفقه الشيعي، أقول إن الفقه السني ملتزم بالنص والشريعة في كون محمد خاتم الأنبياء. الفقه الشيعي ينطوي على كثير من «الغيبية السريالية» عندما ينتظر خروج المهدي الغائب (غودو) من الغار، لإنقاذ البشر في آخر الزمان، مضيفا عليه مرتبة «قداسية» تتناقض مع القبول الشيعي بمحمد خاتم الأنبياء.

جاء الخميني بمبدأ «ولاية الفقيه» مستلهما غيبية الفقه الشيعي، في منح رجال الدين «المعصومية الدينية». لا يبدو الخميني مجددا في فكره الديني. لكن في «ولاية الفقيه» منح نفسه «المعصومية السياسية» التي تضعه خارج مبدأ النقد والمساءلة. فهو شاه متوج ووكيل لـ«غودو» المنتظر.

اختار الخميني مجتهدا صغير الرتبة متفانيا في الولاء له. ربما كانت إعاقة الحجة عليه خامنه ئي ـ تعطلت يده في حادث اغتيال جماعي نجا منه ـ سببا في اختياره فقيها وشاها.

إذا كانت هيبة الخميني أسكتت أي اعتراض على احتكاره السلطات، بما في ذلك قرار شن الحرب التي أطالها ثماني سنوات ضد «قادسية» صدام، وأفني فيها الفقيه الإيراني جيلا إيرانيا، إذا كان الخميني «معصوما قداسيا» فوق النقد، فخليفته يواجه اليوم تمردا صريحا على «ولاية الفقيه»، من الشارع، ومن داخل مؤسسته الدينية الحاكمة.

فقيه غير منتخب شعبيا بالاقتراع الحر، يفرض معصوميته على الرئيس المنتخب، ويحتكر التصرف بقوى الإكراه، من جيش وشرطة ومخابرات وميليشيات، وبالقضاء، والصحافة. بل هو ينتقي المرشحين، قبل أن ينتقيهم الناخبون بالاقتراع.

اهتزاز مبدأ «ولاية الفقيه»، بعد عشرين سنة من احتكار خانق في السلطات المطلقة، يحرج لا شك المؤسسة الرئاسية العربية. فهي سبقت الخميني في إرساء مبدأ «معصومية السياسية». آفة المعصومية أتلفت المؤسسة الرئاسية العربية. تجاوز القانون. انتهاك حقوق الإنسان وحرية الصحافة. الاستثناءات. المحاباة للأهل والحاشية.. كل ذلك جعل الرئيس يحمي نفسه بتمديد أو تجديد ولايته، بانتخابات صورية مشبوهة في أرقامها ومصداقيتها. بل وهج المنصب ومتعته، ثم الخوف من المحاسبة في حالة التخلي عنه، دفع الرئاسات إلى نشدان التوريث للأبناء. شرعية النظام الملكي العربي المعمّر منذ قرون فرضت نوعا من الاستقرار السياسي، وكفلت التناوب السلمي للسلطة بين الآباء والإخوة والأبناء، بحيث يبدو الملك، أو الأمير، أو الشيخ الحاكم، بمثابة الحكم الأب. لست بحاجة إلى تعداد خطايا «المعصومية». فقد باتت معروفة. يكفيني أن أسأل: هل كان العرب بحاجة إلى الاحتلال الأجنبي، لإسقاط معصومية المؤسسة الرئاسية؟ لم يكن أسوا من «الفقيه» صدام المعصوم، سوي نجليه اللذين كان يعدهما لوراثته، وسوى نظام لم نعد نعرف، أهو نظام جمهوري أم وراثي؟