تباينت الأرقام والفقر فضّاح

TT

من قصص المتعبين في الأرض: رب أسرة يعول زوجته ونصف (دستة) من الصبيان والبنات، راتبه الشهري في الحد الأدنى من سلم الرواتب، هذا الرجل يقضي يومه من صباح العالمين إلى ليل الكادحين يطرق كل السبل لتأمين لقمة العيش لأسرته، يستيقظ مع صياح الديكة، فيوزع صغاره على المدارس قبل أن يذهب ليخط توقيعه على دفتر الدوام، هو أول الحاضرين دائما وآخر المنصرفين، فالوظيفة بالنسبة له طوق نجاة يحرص أن يتشبث به، وفي الظهيرة يقوم بحركة (فلاش باك) ينصرف من عمله، يعيد تجميع صغاره، يتحلقون حول قصعة الطعام قبل أن يغادر من جديد ليطوي الطرقات بعربته الأجرة المتهالكة تفتته مشاوير الركاب على خارطة المدينة من (الكرنتينة) جنوبا إلى المطار شمالا، ومن البحر غربا إلى الجبل شرقا، وتصبح مدينة جدة في عينيه مجرد حبل معلق من الإسفلت عليه أن يعبره ذهابا وإيابا كلاعب سيرك ماهر يقاوم السقوط، وقد اعتاد قبل أن يعود إلى بيته في منتصف الليل أن يتفقد ورقة صغيرة في جيبه تحوي بعض طلبات متجددة لأسرته: «حقيبة مدرسية لهند، حليب بودرة لرامي، جزمة رياضة لعمران، دواء الربو لسعاد، ملف علاقي لخالد، و7 كراريس 100 صفحة لأنوار»!

أسمع هذه القصة وغيرها من قصص «صغار الموظفين في الأرض»، والعاطلين، والمعدمين، وأستغرب الجدل الدائر حول عدد الفقراء في البلاد بين من يقول بأنها 600 ألف حالة، وبين من يقفز بأعداد الفقراء إلى خانة الملايين، إذ لا تزال «طاسة» قياس الفقر ضائعة، فلكل معياره الخاص في قياس الفقر، فتباينت الأرقام رغم أن الفقر فضّاح.

في الماضي القريب كانت الفوارق بين الفقراء والأغنياء محدودة نسبيا، أما اليوم فالذي يجعل الفقر أكثر إيلاما اتساع الهوة بين الفقراء والأثرياء، بين بيوت الطين و«الفيلات» الفاخرة، بين الأحياء الخلفية وأحياء الواجهة، بين مدارس الخمس نجوم ومدارس «علب السردين»، وإذا كان تفاوت الأرزاق من سنن الحياة، وأن المجتمعات الإنسانية منذ بدء الخليقة تتسم بهذا التباين، وأن أحلام الشيوعية في تحقيق المساواة الكاملة بين الأفراد كانت مجرد هلوسات وأضغاث أحلام، فإن مبدأ التكافل الذي يحث عليه موروثنا الديني، والثقافي، والاجتماعي يمكن أن يسهم كثيرا في تضييق الهوة، وتخفيف المعاناة، ويحمد لقائد هذه البلاد، الملك عبد الله بن عبد العزيز أن جعل محاربة الفقر من أولويات عهده ومقدمة اهتماماته، وإن كان على المجتمع أن يتحمل مسؤولياته في تحقيق هذه الغاية أيضا، فمن تمام الثراء قدرتك على إسعاد من حولك من الفقراء، فـ«ليس المؤمن الذي يشبع وجاره جائع إلى جنبه».

[email protected]