دافع قوي نحو الخسارة

TT

من بين الحزبين السياسيين الرئيسيين داخل الولايات المتحدة، بات الجمهوريون مميزين حاليا بسعيهم الحثيث وراء الخسارة، ويبدو كل فصيل داخل الحزب عاقد العزم على بسط سيطرته على مملكة اللامعقول.

وللتأكد من هذا الأمر يكفي النظر إلى رد الفعل تجاه إطلاق مبادرة «المجلس الوطني من أجل أميركا جديدة»، وهي عبارة مؤتمر حزبي في صورة «جولة استماع»، أطلقها مسؤولو الحزب الجمهوري أخيرا من داخل إحدى محال البيتزا في فيرجينيا الشمالية، حيث شنت العناصر المحافظة اجتماعيا هجوما ضد هذا المنتدى المعني بقضايا التعليم والاقتصاد لعدم تحوله إلى منتدى حول الإجهاض والقيم الأسرية التقليدية. أما الريغانيون (نسبة إلى رونالد ريغان) الجدد فعكفوا على تفحص الوثائق الصادرة عن المؤتمر بحثا عن تجاوزات لا وجود لها، مثل: كيف يجرؤ حاكم فلوريدا السابق، جيب بوش، على انتقاد مشاعر «الحنين» إلى «أيام الماضي الجميل»؟ لماذا إذن لم يتجه إلى قبر رونالد ريغان ليبصق عليه مباشرة؟ كما انتقد محافظون آخرون فكرة إجراء جلسة استماع من الأساس، متسائلين: «ما الذي ينبغي أن نستمع إليه؟».

خلال محادثة جرت معه أخيرا، وصف بوش نفسه بأنه: «مصعوق من رد الفعل»، مضيفا: «لا أعتقد أن الإنصات يعدّ نقيصة. إن الناس تتوق إلى أن ينصت إليها الآخرون. ربما علينا أن نبدأ ذلك بإبداء بعض التواضع».

في الواقع هناك الكثير من الأمور التي تفرض على الجمهوريين التواضع. على سبيل المثال، أعرب بوش عن اعتقاده بأن الحزب يواجه «تحولات ديموغرافية هائلة، خصوصا فيما يتعلق بوجود ذوي الأصول اللاتينية في الولايات الحاسمة»، و«انفضاض الناخبين الشباب» بعيدا عن الحزب، والتراجع غير المسبوق في مستوى تأييد الحزب بين خريجي الجامعات.

وخلص بوش إلى أن: «محاولة تمثيل كل شيء لكل الناس لن تفلح». واستطرد موضحا أن هدف الحزب ينبغي «ألا يكون إعادة صياغة معتقداتنا، وإنما الاعتراف بالتحديات القائمة والتكيف معها»، خصوصا فيما يتعلق بقضايا الأمن القومي والرعاية الصحية والتعليم والاقتصاد والبيئة. وأكد أن الجمهوريين بحاجة إلى «التركيز على صياغة سياسات على صلة بالحاضر، وليس بـ20 أو 30 أو 40 عاما ماضية».

من ناحيته، يصر جيب بوش على أن هذا التركيز على السياسات الإبداعية باستطاعته توحيد صفوف الحزب، لأن «العناصر التي تجمع بين المحافظين أكبر من تلك التي يختلفون حولها». وقد توحدت صفوف الحزب الجمهوري بالفعل في وجه حشد الرئيس أوباما للديون والنفوذ، لكن فيما يتصل بالقضايا الأخرى يبدو أن الجمهوريين سيخوضون أولا سلسلة من النقاشات المشوهة قبل وصولهم إلى نقطة تناول «السياسات ذات الصلة بالحاضر».

عند النظر إلى القضايا المتعلقة بالبيئة، على سبيل المثال، نجد أنه بالنسبة للكثير من الأميركيين، خصوصا الشباب منهم، لم يعد الاهتمام بالانبعاثات الكربونية والتغييرات السلبية التي تطرأ على المناخ مجرد قناعة، وإنما قيمة في حد ذاته. وقد تكون الأصوات الجمهورية المتشككة بشأن صحة المخاوف المتعلقة بالمناخ ـ وهي الأصوات المهيمنة داخل الحزب ـ قد كشفت النقاب عن وهم علمي ضخم، مثل الاعتقاد في وجود مادة فلوجستون في عمليات الاحتراق وعلم الفراسة. بيد أنه بالنظر إلى الأدلة الدامغة المتعلقة بعلوم الثلوج والنبات والبيولوجيا المائية، يبدو من غير المحتمل أن تكون هذه المخاوف مجرد وهم هي الأخرى.

في الواقع، بإمكان الجمهوريين تقديم إسهامات متميزة في السياسة المناخية، ذلك أن بمقدورهم دعم فرض ضرائب كربونية بدلا من نظام الحد الانبعاثي ونظام المتاجرة المرهق. وينبغي أن يصر الجمهوريون على أن ترجع كافة العائدات المترتبة على الضرائب المفروضة على الانبعاثات الكربونية أو مبيعات أذون التلوث إلى الشعب الأميركي في صورة تخفيض الضرائب. ويتمثل التساؤل الرئيسي على هذا الصعيد فيما إذا كان ينبغي فرض تكلفة على الانبعاثات الكربونية، وإذا كانت الإجابة العامة في صفوف الجمهوريين بالرفض فلن ينظر الأميركيون إليهم حينها باعتبارهم ينتمون إلى حزب معني بالبيئة.

وينطبق الأمر ذاته على الرعاية الصحية، حيث يبدو نظام الرعاية الصحية الذي صاغه أوباما ـ والذي لا يزال في طوره الأول ـ معيبا للغاية، ذلك أنه يقوم على نظام من الغرامات والهياكل البيروقراطية الجديدة والدعم لدفع العاملين باتجاه خطة شبيهة بنظام «ميديكير». من جانبهم يساند الجمهوريون منذ أمد بعيد البدائل المرتبطة بدعم الملكية الفردية لتأمين صحي خاص، إلا أن مثل هذه المقترحات اتسمت بوجه عام بطابع تدريجي، وافتقرت إلى من يشرحها على نحو ملائم، علاوة على تجاهلها على الصعيد العام.

ومن بين البدائل الموثوق بها التي يمكن للجمهوريين طرحها استخدام اعتمادات ضريبية أكثر سخاء، يمكن ردها بحيث يتمكن العمال الفقراء من الاشتراك في خدمة تأمين صحي أساسي، مما يعني التمتع بالرعاية الصحية عبر نظام التأمين الخاص. ويمكن القول إن هذا المقترح البديل الوحيد الحقيقي لعملية فرض الطابع الاشتراكي على نظام الرعاية الصحية الأميركي، الجارية حاليا ببطء والتي تتسم كذلك بارتفاع تكلفتها.

وفيما يرتبط بقضية الهجرة نجد أن المهاجرين يتسمون بوجهات نظر سياسية متنوعة، لكنهم في الوقت ذاته يحرصون على اتخاذ وجهة نظر محددة حيال الأحزاب والسياسيين تدور حول تساؤل: هل يرحبون بنا؟ بالنسبة للجمهوريين غالبا ما بدت الإجابة مبهمة. ويرتبط أحد الأسباب وراء هذا الانطباع في نبرة تصريحات مسؤولي الحزب. ومن المتعذر التغلب على هذا الانطباع دون إعلان الجمهوريين دعمهم لإصلاح سياسة الهجرة، بما في ذلك تقنين أوضاع العمالة المؤقتة وتوفير فرص واقعية للحصول على الجنسية.

في الواقع يمكن أن تشكل كل من هذه القضايا ـ القيود على الانبعاثات الكربونية، ونظام التأمين الصحي الشامل، وإصلاح سياسة الهجرة ـ أهمية كبيرة لاستعادة الحزب الجمهوري قوته في نهاية الأمر. لكن التساؤل الذي يفرض نفسه الآن: هل سينجح المرشح المعني بهذه الأفكار في إحداث تحول في الحزب الجمهوري، أم سيدمره الحزب؟ في الحقيقة رد الفعل العدائي تجاه المؤتمر الحزبي الأخير لا يبشر بالخير، إلا أنه من الواضح أنه بمرور السنوات تزداد صورة مملكة اللامعقول ظلاما، حتى في أعين حكامها. وبمرور الزمن تتحول الخيارات السياسية غير المعقولة إلى خيارات لا مفر منها.

*خدمة «واشنطن بوست»

خاص بـ«الشرق الأوسط»