أوباما ينظر من برج عاجي

TT

عندما عاد الرئيس الأميركي باراك أوباما من جولته الأوروبية الأولى، لاحظت أنه في الوقت الذي ذهب فيه هناك كان أشبه بملك فيلسوف يحاول الوساطة بين أميركا والعالم. أما وقد عاد أوباما من حجته، التي يوافق الغرب على تسميتها بذلك، في العالم الإسلامي. وقد قال إيفان توماس محرر النيوزويك لكريس ماثيو الذي يتفق معه في الرأي، عاكسا إدراك أوباما العميق لنفسه كشخصية بالغة العظمة: «إن أوباما يقف على رأس الدولة والعالم. إنه أشبه بمعبود».

كلا ليس الأمر كذلك، فأوباما لا ينظر إلى نفسه على أنه كائن إلهي (يرى نفسه كمخلص عادي، أو على الأسوأ، كحواري) لكنه تسيد أشخاصا فانين ودولة بسيطة لكي يطل برفق على السهل المظلم أسفل منه، حيث تتصادم الجيوش الجاهلة بالليل، والعاجزة عن رؤية القيم الإنسانية التي يراها هو. سافر أوباما حول العالم ليجلب معه إنجيل الفهم ورفق الآلهة. وقال لقد أخطأنا في حق بعضنا البعض ويجب علينا الآن أن نتجاوز ذلك ونمشي سويا إلى أسمى درجات التفاهم الدولي، وأنه سوف يقودنا في ذلك. ومن ثم:

1 ـ أخبر إيران أن أميركا، من ناحية، ساهمت ذات مرة في الإطاحة بحكومة إيرانية، فيما قامت إيران على الجهة الأخرى بخطف رهائن وأعمال عنف ضد القوات الأميركية والمدنيين ولقد أخطأ كلانا، لذا دعونا ننسى الماضي ونبدأ من جديد.

2ـ على صعيد التسامح الديني أشار برفق إلى مسيحيي لبنان ومصر ثم أبدى أسفه (بصوت خفيض) على «الانقسامات بين السنة والشيعة التي أدت إلى عنف مأساوي»، ثم انتقد بعد ذلك (بلهجة قاسية) التعصب الديني في الغرب الذي منع ارتداء الحجاب، بعد أن قال إن أميركا جعلت من الصعوبة بمكان بالنسبة للمسلمين تقديم تبرعات.

3 ـ عاتب أوباما المسلمين عتابا حذرا على حقوق المرأة، مشيرا إلى حرمان المرأة من حقها في التعليم، مشيرا في ذات الوقت، حتى يكون متوازنا بطبيعة الحال إلى: «أن قضايا المساواة بالنسبة للمرأة هي من دون شك قضية عالجها الإسلام، وأن النضال من أجل المساواة للمرأة مستمر في الكثير من نواحي الحياة في الولايات المتحدة».

حسنا قد تكون بعض الجامعات الأميركية قد حرمت فرق السيدات لكرة البيسبول من تلقي تمويلات كافية، لكن الفتيات في مدارس أفغانستان يتعرضن إلى رمي الحمض في وجوههن. كلنا لدينا عيوب ونقاط ضعف وطنية، لكن من بمقدوره الحكم على ذلك؟

تلك هي المشكلة مع المساواة السماوية التي ينتهجها أوباما، إذ إنها تعطي مظهرا خادعا على التقدم الأستاذي لغالبية الملاحظات البسيطة. من المؤكد أن هناك أمورا تبدو صوابا وأخرى خطأ في الشؤون الإنسانية. وفصائلنا فصائل منقرضة لكن ذلك لا يعني أن يكون ذلك الصواب والخطأ على نفس الدرجة من الأهمية. ولا توازن مساعد المخابرات المركزية الأميركية على الانقلاب الذي وقع منذ 56 عاما احتجاز الرهائن أو قطع أعناقهم أو التفجيرات الإرهابية والقتل العشوائي الذي امتد على مدار 30 عاما من قبل نظام سفاح في طهران (ووكلائها)، حيث تسميها وزارة خارجيتنا «الدولة الأكثر نشاطا في دعم الإرهاب».

صحيح أن فرنسا حظرت ارتداء الحجاب في بعض الأماكن المعينة، لكن ذلك جاء في إطار حماية النساء اللاتي قد يجبرن على ارتدائه من قبل عصابات الأحياء المتطرفة. لكن من الخطأ مقارنة هذا الخيار المعتدل للعلمانية بالعنف الذي يمارس ضد الأقباط والمارون والبهائيين والدروز والأقليات الأخرى في العالم الإسلامي وكذلك مقارنته مع الأعمال الوحشية التي يقوم بها السنة ضد بعضهم البعض.

حتى فيما يخص الحرية الدينية، لم يستطع أوباما مقاومة البحث عن خطأ لدولته، حيث قال: «على سبيل المثال، في الولايات المتحدة فإن القوانين الخاصة بالجمعيات الخيرية جعلت من الصعوبة بمكان بالنسبة للمسلمين ممارسة فروضهم الدينية»، وهو ما أعطى انطباعا سيئا لمستمعيه الأجانب ممن هم ليسوا على اطلاع كاف بقوانيننا بأن هناك تمييزا ضد المسلمين في حين أن القيود، التي تطبق على كل المانحين بغض النظر عن دينهم، تطبق على تمويل المؤسسات الخيرية التي تعمل كواجهات للإرهاب.

ومع كل فلسفته التي يتمتع بها، يكثر الملك الفيلسوف من الاحتجاج. ويعتقد أوباما من دون شك أنه يمثل القيم التاريخية والأخلاقية والاعتذار عن الإساءات السابقة. وعلى النقيض من ذلك أظهر أوباما تواضعا رخيصا ونهما غير مسبوق للتصفيق ورغبة في تشويه التاريخ لغرض سياسي.

إن تشويه التاريخ ليس قولا للحقيقة لكن رواية الأكاذيب الناعمة هو تزييف التاريخ. وخلق تساو كاذب ليس قيادة أخلاقية لكن التنازل الأخلاقي، والتجوال بين ذلك كله بين الدولة والتاريخ ليس علامة على علو المكانة بل على ازدواجية مقلقة نحو بلد الفرد ذاته.

*خدمة «واشنطن بوست»

خاص بـ«الشرق الأوسط»