الأسرى وجلسات التفاوض التي لا نهاية لها

TT

جلعاد شليط الأسير الإسرائيلي الذي تحتجزه منذ أعوام حكومة حماس، هو الأكثر شهرة بين أسرى العصر الحديث، حيث تدور بشأنه المفاوضات المتعاقبة في جولات لا تنتهي بين حكومات ثلاث هي الإسرائيلية والمصرية وحكومة حماس. ومن الطبيعي أن تطول هذه المفاوضات لحرص حماس على أن تحصل في مقابله على مردود جيد من الأسرى الفلسطينيين الذين بلغ عددهم أحد عشر ألفا. من الطبيعي في هذه الحالة أن تناضل إسرائيل من أجل تخفيض العدد الذي سترغم على الإفراج عنه، ومن الطبيعي أيضا أن تناضل حكومة حماس من أجل الإفراج عن أكبر عدد ممكن من أسراها كجماعة وحكومة لا بأس من وصفها بالمقالة. هو صراع أشبه بلعبة ثني الذراع الشهيرة التي يلعبها شخصان يحرص كل منهما على أن يثني ذراع الآخر بقوة لكي تستقر مستسلمة في ضعف على المائدة، بينما يقف الطرف المصري حكما حريصا على قواعد اللعبة، بحيث لا تنتهي إلى صدام يفسدها. وفي الأسابيع الماضية تسربت لبعض الصحف أخبار عن قرب نهاية «الماتش»، وأن هناك خطوات جادة تم الاتفاق عليها بين الطرفين، ومنها أن إسرائيل ستبدأ بالإفراج عن النساء، يعقب ذلك تسليم الجندي الأسير إلى مصر كخطوة أولى، غير أن السيد إسماعيل هنية قال على الفور في شبه مؤتمر صحفي عن هذه الأخبار: إنها جعجعة صحفية.

إنها المرة الأولى في تاريخ الصحافة العربية، وربما صحافة العالم كله، التي يصف فيها مسؤول أخبارا منشورة بأنها جعجعة صحفية. ولما كانت الكلمات جزءا مهما من مكونات صنعتي، بغير زعم التفوق فيها، تساءلت: كان لدى السيد هنية عشرات التعبيرات المعروفة لنفي هذه الأخبار.. ومنها: هذه الأخبار سابقة لأوانها، أو أنها غير صحيحة، أو مبالغ فيها، أو شائعات.. لماذا استخدم كلمة جعجعة؟

الجعجعة هي ما نصف بها كلمات شخص ما بأنها لا تؤدي إلى فعل، وأشهر مثال لها هو مسرحية شيكسبير ( جعجعة بلا طحن) وأشهر مثال لها في حوارنا اليومي، جعجعة فارغة، في كل الأحوال نحن نستخدمها عندما نشير إلى عدم تحقق الفعل، فهل الإفراج عن هذا الأسير أمر مستحيل؟

الناس توجد في مكانين فقط، على ظاهر الأرض أو في باطنها، فأين يوجد جلعاد شليط؟ وما الذي يجعل خبر الإفراج عنه في مقابل عدد كبير من الأسرى الفلسطينيين مجرد جعجعة؟

لو أنني كنت عضوا بارزا في جماعة حماس لما رحبت بالإفراج عنه في مقابل عدد قل أو كثر من زملائي المناضلين الذين سيخرجون من السجن ليقاسموني لقمة السلطة والنجومية، كمية الكاميرات والميكروفونات في المنطقة العربية محدودة وموزعة على عدد من البشر، والعاملون في حقل الفضائيات يتحرقون شوقا للعثور على وجوه جديدة وأصوات جديدة يجددون بها شباب محطاتهم، وشباب الصراع العربي الإسرائيلي وهو ما لاحظناه جميعا بعد خروج السيد عبد العزيز الدويك من الأسر. لقد احتل مساحة معتبرة من الفضائيات عبر فيها عن وجهات نظر جديدة أيضا، ماذا يحدث لي بعد الإفراج عن مائة أو حتى عشرة أشخاص فقط من زملائي؟

المناضل الخارج من السجن شخص دفع ثمن النضال من حريته وعلى الآخرين ـ على الأقل ـ أن يثبتوا له أنهم يقدرون ذلك، على الأقل أن يعطوه قطعة من كعكة الإعلام والسلطة في مساحة من الأرض صغيرة للغاية. هذا أمر خبرناه جيدا في مصر، زملاؤنا المناضلون الخارجون من السجن، كان من حقهم أن يتكلموا وأن نسكت نحن، كانوا يحرصون طول الوقت على تذكيرنا بأنهم دفعوا الثمن، كانت لنا زميلة عندما تسألها مثلا عن مسرحية «هاملت» تجيب: نعم لقد شاهدتها في لندن بعد خروجي من السجن، أو.. نعم، أنا أحب المكرونة الاسباكتي، فقد حدث بعد أن سجنني السادات في سجن القناطر، أن حلمت كثيرا بالتهام طبق منها.

إن آليات التفكير عند الزعيم الثوري هي نفسها عند نجوم السينما والمسرح، من المستحيل أن يرحب بظهور نجوم جدد على الساحة. في هذه الحالة لا بد من استمرار جولات التفاوض إلى الأبد، بذلك تكون أخبار نجاح المفاوضات ليست أكثر من جعجعة.

الاحتمال الثاني ـ اقرأني جيدا، أنا أقول الاحتمال ولا أؤكد شيئا ـ أن جلعاد لم يعد حيا، وأنه أسير افتراضي تماما كالواقع الافتراضي، في هذه الحالة أيضا تكون أخبار الإفراج عنه، مجرد جعجعة صحفية. لا بد أن هذا الهاجس قد طرأ للمفاوض المصري والإسرائيلي إذ إن الطرف الفلسطيني يعرف الحقيقة المؤكدة. غير أن المشتغلين بالسياسة لا يستندون في عملهم إلى الهواجس والخواطر، هم فقط يعرفون ويبحثون أيضا عن الحقائق المؤكدة. هكذا تستمر جولات التفاوض مستندة في الغالب لقاعدة سلوكية مصرية قديمة وأصيلة وهي (خليك مع المفاوض لحد باب الدار) وفي كل الأحوال سيضع المفاوض المصري أعصابه في الثلاجة إلى أن يصل إلى باب الدار. هذا إذا كان للدار وجود.. وكان لها باب.