سبحان مغير الأحوال

TT

حتى انتهاء عقد الستينات من القرن الماضي كانت حركة السفر محدودة داخل البلاد أو خارجها، وأعرف شخصيات عاشت طوال عمرها لم تغادر مدينتها قط إلا إلى مكة المكرمة أو المدينة المنورة، وبالتالي كانت طرائق معيشة الناس، وأساليب تعبيرهم، ومنظومة مفرداتهم العامية تتباين من مدينة إلى مدينة، ومن منطقة لأخرى، حتى أن المرحوم إبراهيم الحسون في كتابه العظيم «خواطر وذكريات» يتعرض لرحلته العجائبية من عنيزة إلى جدة في العقد الثاني من القرن العشرين، ويصف يومه الأول في مدينة جدة فيقول: «خرجت إلى الشارع، وكان أول من صادفني رجل جالس على مقربة من المسجد مباشرة أمامه (جام) يحتوي على مجموعة من الإبر والأزارير وما إليها، وكان معتمرا بعمامة بيضاء أحكم لفها على رأسه بطريقة معينة، وقفت أمامه فخالني أريد شراء بعض الأزارير، ورفع قزاز «الجام» وفاجأته بقولي: يا عم أين الكنداسة ـ محطة تحلية مياه البحر ـ؟ فأطبق الجام متذمرا وقال لي دون أن ينظر إلي: «الكنداسة دوغري»، وكانت كلمة «دوغري» يسمعها الحسون للمرة الأولى ولا يدري لها معنى، وسأل آخر عن الكنداسة، فقال له: «عند نهاية الزقاق خش دوغري» فازدادت حيرة الحسون، فهو لا يعرف معاني «زقاق» ولا «خش» ومن قبلهما «دوغري».

اليوم السعوديون من أكثر شعوب الأرض أسفارا وتجوالا، يتجاوزون حدود بلادهم كل صيف إلى كل قارات الأرض، ينفقون ـ كما يقال ـ أكثر من خمسين مليار دولار سنويا على السياحة الخارجية، وتصل أعدادهم إلى نحو 4 ملايين سائح. وتكمن الإشكالية التي يواجهها عدد من الأسر في تحول السياحة الصيفية إلى عادة قسرية، تلجأ من أجلها بعض الأسر إلى الاستدانة لتلبية ما تعودت عليه، فتجد الكثيرين كل عام يذهبون ثقالا، ويعودون خفافا، وقد «ضيعت الصيف اللبن».

وأغرى حجم الإنفاق على السياحة الخارجية، وما يتعرض له البعض من استغلال إلى التفكير منذ عدة سنوات في تشجيع السياحة الداخلية، فتأهبت مدن كجدة وأبها والطائف وغيرها لأخذ نصيبها من حصة السياحة، إلا أن مشروع السياحة الداخلية لم يرتق إلى مستوى المنافسة مع الاستقطاب الخارجي نتيجة حداثة مفهوم السياحة الداخلية، والغلو في الأسعار، وعدم حسم الجدل حول بعض المناشط السياحية، وبالتالي ظل نزيف السياحة الخارجية مستمرا رغم أن سياحتنا الخارجية من نوع السياحة السلبية في الغالب، حيث ينحصر نشاط الكثيرين في التسوق، والمقاهي، ومشاهدة خلق الله.

حقا إنه لأمر يدير الرؤوس، حينما نتذكر أوضاعنا بالأمس، وكيف كانت المدينة التي يسكنها الفرد تشكل كل عالمه، ثم كيف تحولنا بقدرة قادر إلى رحالة ألفت وجوهنا مطارات الدنيا وألفناها، فسبحان مغير الأحوال.

[email protected]