أميركا وإيران: سياسة اليد الممدودة إلى متى؟

TT

هل هناك من استراتيجية أميركية جديدة معتمدة فيها الكثير من عدم الوضوح بقصد إرباك الأطراف الأخرى؟ كان هذا جلياً في زيارة الرئيس الأميركي باراك أوباما إلى روسيا، وما رافقها من تصريحات لنائبه جو بايدن.

في اللقاء الصحافي الذي عقده أوباما مع الرئيس الروسي ديمتري ميدفيديف، وبعدما أصر أوباما على تأجيل البحث في القضايا الرئيسية الشائكة بين موسكو وواشنطن حتى الخريف عندما تزور وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون العاصمة الروسية، سئل من قبل الصحافيين بإلحاح عما ستتضمنه محادثاته مع رئيس الوزراء الروسي فلاديمير بوتين في اليوم التالي (الثلاثاء 7 تموز/ يوليو الجاري)، فما كان من أوباما إلا أن حاول التقليل من شأن دور بوتين في صنع القرار الروسي، مشيراً إلى أن ميدفيديف هو الرئيس، وأنه «في روسيا كما في أميركا فإن الرئيس هو القائد الأعلى للحكومة».

كانت تلك المرة الثانية الذي يحاول أوباما تهميش دور بوتين في روسيا، إذ قبل القمة الروسية ـ الأميركية، وفي حديث إلى «الاسوشييتدبرس» اعترف أن لبوتين دوراً في روسيا، إنما الأهم بالنسبة إليه أن يتقدم إلى الأمام مع ميدفيديف.

في تلك المقابلة بدت العلاقات الأميركية ـ الروسية جزءاً من لعبة «المكائد» في واشنطن بجعل ميدفيديف يواجه بوتين. وتكرار الرئيس الأميركي تفضيله التعامل مع الرئيس الروسي على حساب «القوي» بوتين، ظهر وكأن هناك استراتيجية أميركية مقصودة لوضع إسفين بين المسؤولين الروسيين وإيجاد شرخ، رغم أن كل المعلقين والسياسيين الروس يؤكدون أن هذا غير موجود، لا بل أن ميدفيديف يصغي وينفذ توجيهات بوتين. قد يكون ذلك كما قال احد السياسيين الأميركيين. محاولة من أوباما لإفقاد بوتين توازنه قبل لقائهما، خصوصاً أن الأخير معروف بأنه مفاوض محنك جداً. على كل، أثبت بوتين انه هو من يقرر في روسيا، ففي اللقاء أصر على رفض روسيا أن تقيم أميركا نظاماً للصواريخ الدفاعية الباليستية في بولونيا، لأنه يهدد روسيا، ورفض أوباما أن يبحث هذا الأمر. وعندها انتهت القمة إلى درجة أن الكرملين اضطر ليلة الثلاثاء الماضي إلى إلغاء حفلة استقبال كان مدعواً إليها الزعماء الثلاثة (أوباما، ميدفيديف، بوتين) وزوجاتهم، لكن بوتين الذي لم يرتح إلى لقائه بأوباما قرر عدم حضور حفلة الاستقبال.

ورغم أن ميدفيديف لم يعتذر، إلا أن أوباما بعد اعتذار بوتين، قرر أن يمضي السهرة في الفندق مع زوجته وابنتيه.

يوم الثلاثاء أيضا، وفي مؤتمر صحافي سئل أوباما عن تعليقه على تصريح نائبه جو بايدن، وعما إذا كانت واشنطن أعطت إسرائيل «الضوء الأخضر» لضرب إيران فكان جوابه: «قطعاً لا».

تصريح بايدن إلى قناة الـ«اي. بي. سي»، بأن بلاده لا تستطيع أن تملي على دولة أخرى ما عليها فعله إذا كان وجودها مهدداً، يتناقض تماماً مع تحذيراته إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في شهر نيسان (ابريل) الماضي من مغبة مثل هذا العمل.

بعض المراقبين رأى أن تصريحات بايدن لا تتضمن أي تغيير في السياسة الأميركية تجاه إيران، لكن عدم تكراره لما قاله في شهر نيسان (ابريل) من أن واشنطن تعارض مثل هذه العملية، دفع البعض إلى التفسير بأن موقف واشنطن صار حيادياً.

أوباما في مؤتمره الصحافي، دافع عن بايدن بأن أميركا فعلاً لا تستطيع أن تملي على دولة أخرى ما عليها عمله فيما يتعلق بأمنها، لكنه أضاف: «لكن سياسة الولايات المتحدة هي في محاولة إيجاد حل لقدرات إيران النووية بطريقة سلمية وعبر الأقنية الديبلوماسية». أيضاً تناقضت تصريحات بايدن مع حذر رئيس الأركان الأميركي الأدميرال مايكل مولن الذي قال: «إن أي غارة على إيران ستؤدي إلى الكثير من عدم الاستقرار».

العارفون في واشنطن يؤكدون أن بايدن نسق تصريحاته «المقصودة» مع البيت الأبيض، وانه أراد أن يقلص من نسبة الشعور بالراحة الذي يعتري القيادة الإيرانية بأن لا ردود فعل لأي نوع من الأعمال التي تُقدم عليها، ثم أن واشنطن لا تقلق إذا شعرت إيران بمزيد من العزلة نتيجة لتصريحات بايدن وتهديدات إسرائيل. ويضيف هؤلاء بثقة: إن واشنطن تدرك أن تهرب إيران من الجلوس على طاولة المفاوضات يعود إلى خوفها من انكشاف مدى وعمق ضعفها تجاه الولايات المتحدة.

أما بالنسبة إلى إسرائيل وحماستها لضربة «أميركية» على إيران، فيعود إلى مسألة الهجرة، وقال السياسي الأميركي: إن خطر امتلاك إيران قنبلة نووية ليس الخوف من تدمير إسرائيل، إنما لأنه سيقلص الهجرة اليهودية إليها.

وقال الخبير الإسرائيلي في الشؤون الإيرانية في جامعة تل أبيب دافيد مناشري: «إن الكابوس الحقيقي الذي تعيشه إسرائيل هو أن تتلقى ذات يوم اتصالاً من الحكومة الأميركية، تبلغها فيه أنها أعطتها الضوء الأخضر لتقوم هي بمهمة القضاء على المنشآت النووية الإيرانية». رغم كل التدريبات والمناورات والتصريحات، فإن إسرائيل لا تستطيع بمفردها شن غارات على إيران. عسكرياً العملية صعبة، فإيران نشرت منشآتها في أماكن عدة، وتلقنت درس مفاعل «اوزيراك» العراقي الذي دمرته إسرائيل عام 1981، والطائرات الإسرائيلية مضطرة إلى التحليق طويلاً. بايدن في مقابلته رفض أن يجيب عن «تأويلات» عما إذا كانت إسرائيل ستُمنح الإذن من الولايات المتحدة أو من حكومة العراق، للتحليق فوق العراق في طريقها إلى قصف إيران.

لولا روسيا والصين، لكان موقف إيران مختلفاً، النظام الإيراني يعرف أن باستطاعته الاعتماد على دعم هاتين الدولتين. أميركا وأوروبا في قمة الدول الصناعية الأسبوع الماضي في ايطاليا أعطوا إيران مهلة حتى شهر أيلول/ سبتمبر المقبل لتظهر تعاوناً في شأن برنامجها النووي، لكن تهديد الأمم المتحدة بفرض عقوبات صارمة على إيران (تشمل الغاز والنفط) يبقى من دون مصداقية إذا لم تقرر روسيا بالذات دعم التحرك الأميركي.

وكان لفت الأنظار إطلاق سراح الإيرانيين الخمسة الذين اعتقلتهم القوات الأميركية في العراق، وقد يكون جرى ذلك كجزء من ترتيبات أمنية بين واشنطن وبغداد، لكن ذلك لم يكن بإطلاق السراح العادي. فالإيرانيون متهمون بمساعدة ميليشيات عراقية على عمليات إرهابية، ثم أن الحكومة العراقية أصرت على ترحيلهم ومنعهم من العودة مستقبلاً إلى العراق. لكن إطلاق سراحهم الذي جاء بعد تصريحات بايدن، يمكن أن يشير إلى أن إدارة الرئيس أوباما مصرة على المضي قدماً في الليونة الديبلوماسية مع إيران، رغم كل التوتر السياسي من جراء هذه الاستراتيجية، داخل أميركا وخارجها. ثم انه من المستبعد أن تكون أميركا وافقت على هذه الخطوة من دون مقابل من إيران. وقد جاءت تصريحات وزير الخارجية الإيراني منوشهر متقي لتدل على أن اتصالات سرية مستمرة بين طهران وواشنطن. لكن هل تستطيع إيران أن تتخلص من مناورات اللعب على الوقت وعدم المصداقية في كل طروحاتها.

الرئيس أوباما واثق، كما يبدو، من أن سياسته في الإصرار على التفاوض من جهة، والتهديد من دون عصا من جهة أخرى، ستؤتي ثمارها، لكن القيادة الإيرانية في حالة صراع داخلي بين المتشددين الذين يريدون الحفاظ على خط الثورة الإسلامية على طريقتهم، والمتشددين الآخرين الذين لديهم تصور آخر للحفاظ على الثورة التي أرسى قواعدها آية الله الخميني، وبانتظار أن ينتصر فريق متشدد على فريق متشدد آخر، فمن المستبعد أن يكون بمقدور أي منهما الجلوس والتفاوض جدياً مع أميركا.مستقبل الثورة الآن على المحك: الوضع الاقتصادي سيئ، وأسعار النفط إلى هبوط، وربما التلويح بتطبيع العلاقات بين واشنطن وطهران، مع الوعد بمشاركة أميركية لتطوير إيران، يمكن أن يكون منفذاً لمفاوضات مستقبلية. مثل هذه الطروحات تخيف القيادة الإيرانية، إنها دائماً في حاجة إلى تهديد خارجي كي تظل متحكمة في الداخل. المهم أن تظل يد أوباما ممدودة، فلا بد أن يلتقطها إيراني يكون مستقبل إيران معقوداً عليه!