اليد الخفية في لبنان

TT

أفضل تفسير ابتدعه دعاة الاقتصاد الحر لتبرير دوران «دولاب» الحركة المعيشية اليومية في مجتمعات الاقتصاد الرأسمالي اعتباره مرعيا «بيد خفية» تنظّم نشاطاتها اليومية مدفوعة بالحوافز المادية، فتدفع رجل الإعمال إلى ملاحقة مداولاته التجارية والتاجر إلى فتح دكانته والموظف إلى التوجه إلى مركز عمله..

في واقعها الاصرح، نظرية «اليد الخفية» في مجتمعات الاقتصاد الرأسمالي تعبير مهذب لغريزة بشرية هي السعي وراء الربحية والمكاسب المادية. وفي أحسن الحالات وراء لقمة العيش اليومي.

ما أشبه واقع لبنان السياسي اليوم بواقع المجتمعات الاقتصادية التقليدية: هذه تنام على يد خفية تحرك اقتصادها اليومي وهو ينام على عدة «أيادٍ خفية» تحرك حياته السياسية اليومية.. ويبقى القاسم المشترك بين أيدي لبنان الخفية وأيدي النظام الاقتصادي الحر تلك الغريزة البشرية المتجذرة: السعي وراء المكاسب - السياسية في الحالة اللبنانية والمادية في الحالة الرأسمالية.

لو كان لبنان دولة ديمقراطية عادية ـ ولا نقول طبيعية ـ لكان حسم أمر تشكيل حكومته الجديدة مع صدور النتائج الرسمية لانتخاباته النيابية في 8 يونيو (حزيران) الماضي، فبأي مقياس ديمقراطي يعتبر حصول الأكثرية على 72 مقعدا مقابل 56 مقعدا للمعارضة، في انتخابات حرة وشفافة، وكالة شعبية مباشرة لتكليف الأكثرية مهمة تشكيل حكومة ما بعد الانتخابات.

ولكن لبنان ليس «ديمقراطيا عدديا» بقدر ما هو «ديمقراطيا توافقيا»، أي تحكمه الاعتبارات المذهبية على حساب المعطيات العددية.

من هنا أهمية الدور «الخفي» للأيدي «الخفية» في تقرير شكل حكومته «الديمقراطية»، وهو دور تعقده ما تضمره التركيبة المذهبية في لبنان من ولاءات سياسية تتعدى حدود وطنها، فتتداخل متطلبات التوازن المذهبي «الوطنية» واعتبارات الولاءات السياسية الخارجية في عرقلة تشكيل حكومة من لون سياسي واحد.

بموجب القاموس السياسي اللبناني المحلي تبدو عقدة تشكيل الحكومة اللبنانية محصورة بما يسمى «الثلث المعطل» إلا أنها في الواقع تتعدى هذا المطلب، المتنكر لنتائج الانتخابات الأخيرة، إلى قضايا لبنانية ـ سورية لا تزال «عالقة» بين البلدين وأبرزها: ترسيم الحدود اللبنانية ـ السورية، وجمع السلاح الفلسطيني خارج المخيمات (من الفصائل الموالية لسورية)، وبت مصير المجلس الأعلى اللبناني ـ السوري (على خلفية التبادل الدبلوماسي بين البلدين) وربما، لاحقا، إعادة النظر في عدد من المعاهدات السورية ـ اللبنانية التي عقدت في عهد الوصاية السورية.

على خلفية هذه الأمور اللبنانية ـ السورية «العالقة» تأخذ اللعبة السياسية الداخلية في لبنان بعدها غير الخفي. أما الإشكالات المرئية في عقد تشكيل الحكومة، مثل زيارة الرئيس المكلف إلى دمشق «قبل» أو «بعد» تأليف الحكومة، فليست أكثر من محاولة سورية لتسجيل مكسب معنوي يساهم في تعزيز أهمية دورها الإقليمي في وقت تتطلع فيه إلى مفاوضة الرئيس الأميركي باراك أوباما، وجها لوجه وفي دمشق، حول متطلبات السلام مع إسرائيل وما قد تستتبعه هذه الخطوة من إعادة نظر في العلاقة مع إيران... هذا في حال غلّب الرئيس أوباما رغبته في «التواصل» مع سورية على «قلقه» من «جوانب في سلوكها» (كما قال لشبكة «سكاي نيوز» البريطانية في 12 يوليو الحالي).

ولكن «قلق» الرئيس أوباما مرشح لأن يتحول إلى عامل رئيسي في دبلوماسيته الشرق أوسطية بعد أن اتخذ موقفا أكثر تشددا حيال ملف إيران النووي (في قمة مجموعة الثماني في ايطاليا) يختلف عن مقاربته للتسوية السورية الإسرائيلية. فعلى هذا الصعيد يواصل أوباما دفع إسرائيل إلى استئناف محادثات السلام المباشرة مع سورية ويوفد مبعوثا خاصا إلى البلدين (فرد هوب) حاملا خطة سلام قد تكون مثيرة للجدل ولكنها تنطلق من مبدأ إعادة هضبة الجولان إلى سورية.

إذن لعبة «الأيدي الخفية» في لبنان لا تخلو من «مغريات خفية» لسورية. والسؤال الواجب طرحه الآن في لبنان ليس ما هو الوقت الذي سيستغرقه تشكيل الحكومة بل ما هو الوقت الذي يحتاجه اللاعبون السياسيون الرئيسيون لاستيعاب التحولات الدولية والإقليمية الراهنة؟