العرب بين محاربة الاحتلال والحنين إليه

TT

وصلني قبل فترة إيميل بعنوان «صور من الزمن الجميل»، العنوان يصلح أن يكون لقصيدة شعر محلقة، والصور جميلة بالفعل، أضفى عليها الزمن مسحة شفيفة من جلال.

العنوان شاعري والصور جميلة، لكن اجتماع العنوان مع الصور بعث برسالة موغلة في دراميتها ووجعها. فالصور كانت لمدينة «عدن» اليمنية أُخذت خلال فترات متقطعة من زمن الاحتلال البريطاني للجنوب اليمني. ذلك الاحتلال الذي دفع اليمنيون ثمنا باهظا لخروجه من جنوب البلاد.

ذكرني ذلك الإيميل بمشهد حي تناقلته وسائل الإعلام عندما قام الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك بزيارة للجزائر (المستعمرة الفرنسية السابقة)، واصطف الجزائريون لرؤية صديق اليوم ـ عدو الأمس. لم يكن المشهد ليعني شيئا، فلا عداوة دائمة ولا صداقة دائمة في عالم السياسة، لم يكن المشهد ليعني شيئا لولا أن عشرات الجزائريين كانوا يلوحون لعدو الأمس الذي أخرجوه من الجزائر على أشلاء ما يزيد على المليون شهيدا، كانوا يلوحون له صارخين: «عطنا فيزا».

أحسست أن عبارة «عطنا فيزا» تـَمُت بصلة إلى عنوان الإيميل: «صور من الزمن الجميل»، الأمر الذي جعل المَشـَاهد تتوالى في ذهني بصورة كثيفة، وفي واحد من هذه المشاهد صورة ذلك الرجل العراقي الذي حمل عدته يوم التاسع من إبريل عام 2003 وتوجه إلى تمثال الرئيس العراقي السابق صدام حسين ليتخلص منه، العراقي نفسه الذي ظهر بعد سنوات قليلة نادما على فعلته تلك في حنين ضمني إلى أيام صدام حسين.

المشاهد الثلاثة لا يربط بينها إلا حنين الناس لما دفعوا لأجل التخلص منه أثمانا باهظة.

ترى ما الذي أوصل الإنسان العربي والمسلم عموما إلى هذا الوضع؟

هل هو مجرد الحنين إلى الماضي؟ هل كانت الثورات التي قامت، والتضحيات الجسيمة التي ذهبت في سبيل طرد المحتلين من بلادنا، هل كان كل ذلك خطأ ارتكبناه؟

هل صحيح أن أيامنا مع المستعمرين كانت أجمل من أيامنا مع الثورات التي قاتلت المستعمرين، ثم رجعت وقاتلت نفسها، ثم عادت وقاتلت شعوبها دون أن تتحول مع الزمن من فعل الثورة إلى فعل الدولة؟ لماذا نجحنا في طرد المستعمرين ولم ننجح في ملء فراغهم في بلداننا؟ لماذا يحن ملايين العرب إلى دخول البلدان التي أخرجوها من ديارهم؟

هل المستعمر هو الذي أفشل عملية تحول الفعل الثوري إلى فعل مؤسسي اجتماعي؟ هل أراد المستعمر بإفشاله الثورات إثبات أن شعوب هذه المنطقة بحاجة إليه، وأنها لا بد أن تشعر بالندم على التمرد عليه والمطالبة بالاستقلال عنه؟ لماذا ثار الجزائريون مثلا على فرنسا، ثم لجأ ملايين منهم إليها هربا من الثورة؟

هل هي دوامة العنف التي بدأت شرارتها بين الثوار والمستعمر ثم انتهت بين الثوار والشعوب؟ هل هو نوع من النزوع إلى العنف الذي لا ينتهي؟

ألم يحارب الصوماليون الإثيوبيين في الصومال بالأمس تحت راية الإسلام حتى إذا ما خرج الإثيوبيون من الصومال رجع المجاهدون إلى بعضهم في شراسة أشد، وحتى أفضى ذلك إلى دعوة فريق من الصوماليين اليوم إلى تدخل الخارج، ذلك الخارج الذي لا يزال دخان معاركه ـ التي أثارها بالأمس ـ محلقا في سماء مقديشو؟

ما هذا العبث؟ ما هذه الدراما الهزلية الخالية من كل المعاني؟

وقبل ذلك ألم يحارب الأفغانُ الروسَ حتى إذا ما خرجوا ارتد سلاح المجاهدين إلى نحورهم تحت الراية الإسلامية ذاتها؟ وها هم اليوم مع الأمريكان يعيدون الكـرَّة. والذي لا شك فيه أن التحالف الغربي سينسحب من أفغانستان، لكن الشك يحوم حول قدرة الأفغان على لجم أسلحتهم والالتفات لمعاناة شعب كان قدره أن يعيش بين مطرقة الداخل وسندان الخارج.

لا أحد يبرئ الدول الكبرى من جرائر أفعالها في المنطقة بالطبع، ولكن القول إن الأمريكان على سبيل المثال قتلوا أو تسببوا قي قتل آلاف العراقيين لا ينبغي أن يعمينا عن الحقيقة المرة المتمثلة في أن العراقيين الذين قتلوا على يد العراقيين أضعاف الذين قتلهم الأمريكان. ألم يطالب أهالي المعتقلين العراقيين القوات الأمريكية بعدم تسليم هؤلاء المعتقلين إلى شرطة الحكومة العراقية؟ هل يفهم من هذا الكلام أنه دعوة لتسليم مصائر شعوب المنطقة إلى المستعمر القديم؟ قد يتسنى للبعض أن يفهم هذا الفهم وكل حر فيما يفهم، غير أن الهدف هنا هو تسليط الضوء على ظاهرة النزوع إلى السيف في حل خلافات المناذرة والغساسنة التي غالبا ما جلبت تدخلات الفرس والروم.

ذلك أنه يبدو أننا بعد ما يزيد على 1400 سنة من أحداث داحس والغبراء ما زلنا نحتكم إلى منطق الملك زهير في النظر إلى الأمور؟ فكم يا ترى من الدماء والدموع يلزم لكي نتعلم؟ لماذا لم تستطع تلك القبائل التي تشهر السيف في كل مناسبة التخلص من قبليتها والاندماج في كيان اجتماعي مدني منسجم.

يخيل إلى أحيانا أننا لا نتقاتل للأسباب الظاهرة، وإنما نتقاتل لنزوع غريب فينا للقتال.

ألسنا نتقاتل لأننا من طوائف شتى، وعندما ننتمي إلى طائفة واحدة فإننا نتقاتل لأننا من أعراق مختلفة، وحتى وإن كنا من عرق واحد فإننا نتقاتل لأننا من جغرافيا مختلفة، والذين ينتمون إلى الجغرافيا الواحدة يتقاتلون لأن التاريخ مختلف، وإذا كان التاريخ مشتركا جاءت السياسة وأثارت غبار حروب البسوس من جديد.

لا يمكن بالطبع التخلص من الخلافات المذهبية والعرقية والجغرافية، إزالة التاريخ عمل مستحيل، توحيد الناس على رؤية سياسية واحدة كلام عبثي، وليس المطلوب القضاء على الاختلافات، ولكن المطلوب التعامل معها بوسيلة أخرى غير الرصاص.

لو جربنا لغة الحوار وتركنا بلاغة الرصاص لوصلنا سريعا إلى الضفة الغربية للبحر الأبيض المتوسط الذي يموت فيه العشرات منا في مراكب الموت المحملة باللاجئين من الجنوب إلى الشمال. لو اتجهنا إلى الكلمة بدلا من الرصاصة لتوقف الصراع بين الأب الذي حارب فرنسا بالأمس والابن الذي يصرخ في وجه رئيسها : «عطنا فيزا»، ولانتهت طوابير الشباب الطويلة على أبواب سفارات «المستعمرين»، ولربما وضعت نهاية سعيدة لتاريخ «ملوك الطوائف» في هذا الأندلس الموبوء بالحروب والصراعات.

*كاتب يمني مقيم

في بريطانيا