أمين معلوف.. والصراع التاريخي

TT

أمين معلوف ليس فقط كاتبا روائيا كبيرا وإنما هو أيضا مفكر حقيقي. لقد جمع المجد من كلا طرفيه. وقد استوقفتني مقالته الأخيرة في مجلة «الإكسبريس» الفرنسية لأنها تلقي أضواء ساطعة، ليس فقط على خطاب أوباما التاريخي في جامعة القاهرة، وإنما أيضا على جذور الصراع الجهنمي الذي دمر المشرق العربي وأجهض نهضته الكبرى. والسؤال الذي يطرحه منذ البداية هو التالي: هل سيكون خطاب أوباما بمثابة العمل التأسيسي للمصالحة التاريخية بين الغرب والإسلام، وكذلك بين إسرائيل والعالم العربي، أم أنه سيكون مجرد زوبعة في فنجان؟

الشهور المقبلة، إن لم تكن الأسابيع المقبلة، كفيلة بأن تقدم لنا الجواب على هذا السؤال. ما هي العقبة الكأداء دون تحقيق السلام في المنطقة؟ إنها في رأي أمين معلوف تتمثل في السؤال التالي: كيف يمكن إقناع الإسرائيليين بتقديم تنازلات أرضية إذا لم نضمن لهم خلود دولتهم وبقاءها؟ وكيف يمكن إقناع الفلسطينيين بوجود دولة إسرائيل إذا كانت ترفض ترسيم حدودها وترغب باستمرار في التوسع على حسابهم، إلى درجة أنه لن يبقى لهم شيء في نهاية المطاف لكي يقيموا عليه دولتهم؟ السؤال الثاني وجيه، أما الأول فليسمح لي أمين معلوف إذا ما قلت له بأني لا أفهم وجاهته ولا مبرراته. ما معنى ضمان خلود أو بقاء دولتهم؟ العرب قالوها مرارا وتكرارا منذ مبادرة الملك عبد الله عام 2002 بأنهم سيعترفون كلهم بدولة إسرائيل ما إن تنسحب إلى حدود 1967. ومؤخرا أكد خالد مشعل على نفس الفكرة واعترف ضمنيا بوجود دولة إسرائيل. فماذا يريدون أكثر من ذلك؟ أصلا هل يستطيع العرب أن يضمنوا لأنفسهم خلود دولهم الحالية المهددة بالتقسيم والحروب الأهلية في بعض الحالات؟ أليس هذا شرطا تعجيزيا لكي لا تنسحب إسرائيل من الأراضي المحتلة ولكي تواصل استعمار ما تبقى؟ يضاف إلى ذلك أن أوباما لاحظ أن الكثيرين من قادة المسلمين والعرب في مجالسهم الخاصة يعترفون بأن إسرائيل ستبقى ولن تختفي من الوجود ولكنهم لا يتجرأون على التصريح بذلك علنا خوفا من شعوبهم. ولاحظ أيضا أن الكثيرين من القادة الإسرائيليين يعترفون بضرورة إقامة دولة فلسطينية في مجالسهم الخاصة أيضا. وعلى قاعدة هذا الاعتراف الضمني المتبادل سوف يبني أوباما تحركه ومشروعه.

تبقى المسألة السيكولوجية أو النفسية التي تحطمت على صخرتها الصلبة كل مشاريع السلام وكل محاولات المصالحة التاريخية بين العرب واليهود. إنها تخص مشروعية إسرائيل في المنطقة أو عدم مشروعيتها. في أعماق كل عربي هذه المشروعية لا وجود لها. ينبغي أن نعترف بالحقيقة. ولكن هذا شيء مفهوم من الناحية النفسية لأن ثمن تأسيس هذه الدولة على أنقاض شعب بأسره كان باهظا جدا: مجازر وحروب لا نهاية لها. ولكن أمام إسرائيل الآن فرصة ذهبية لكي تنال المشروعية: هي أن تنسحب إلى حدود 67 وتسمح بقيام دولة فلسطينية حقيقية. عندئذ فإن دولة فلسطين هي التي ستقدم المشروعية لدولة إسرائيل وتفتح أمامها أبواب العالم العربي على مصراعيها. وذلك لأن فلسفة التاريخ تقول لنا بأن الضحية هي وحدها القادرة على أن تصفح وتغفر وتقدم بالتالي المشروعية لجلادها وليس العكس. كل دول العالم عاجزة عن خلع غطاء المشروعية على إسرائيل بما فيها أعظم دولة: الولايات المتحدة الأميركية. وحدها دولة فلسطين الصغيرة قادرة على ذلك. واليهود الذين أسسوا التحليل النفسي هم أول من يعرف هذه الحقيقة. فلماذا يترددون؟ لماذا يكابرون؟ لأنهم لا يثقون بالمستقبل. اليهود شعب عانى كثيرا على مدار التاريخ كما يقول أوباما وبحق. وكانت النتيجة هي أنهم أصبحوا يشكون في كل شيء ولا يثقون بأي شيء. من هنا الطابع المستحيل، المرعب، القاتل، للصراع العربي الإسرائيلي. يضاف إلى ذلك وجود البعد اللاهوتي، وأكاد أقول الإرهابي، لهذا الصراع الذي دمر البشر والحجر. فاليمين الإسرائيلي يبرر مشروعية الدولة عن طريق القول بأن الله نفسه أعطاهم وعدا بفلسطين! وبالتالي فهي ملكهم وحقهم منذ بدء الخليقة. ولكن ما هو وضع العرب الذين يعيشون على أرضها منذ خمسة عشر قرنا دون انقطاع؟ هل هم مستأجرون يا ترى؟ لا. إنهم محتلون غير شرعيين! هكذا انعكست الأمور، وأصبح صاحب الأرض محتلا والذي غزاها من كل أصقاع الأرض وافدا، هو المالك الحقيقي!.. يقول أمين معلوف: إذا ما سادت هذه المحاجة اللاهوتية الرجعية الارتكاسية والانتكاسية فإن الفوضى ستعم كل أرجاء الكوكب الأرضي وسوف تخرب العلاقات بين الحضارات وكذلك مستقبل العلاقات بين الدين والسياسة.

أخيرا ما الحل؟ وما هي حظوظ أوباما بإيجاد الحل السحري الذي عجز عنه أساطين العالم وقادة الأرض؟ الشروط التي يذكرها أمين معلوف لنجاحه تبدو لنا مخيفة وأكاد أقول تعجيزية. فينبغي عليه أن ينال موافقة قسم كبير من العرب والإسرائيليين في آن معا بمن فيهم اللاجئون الفلسطينيون والمستوطنون الاستعماريون في الضفة. وينبغي عليه أن يرفق مشروعه السياسي بخطة مارشال اقتصادية ضخمة لتنمية المنطقة وتهدئة الشعوب الجائعة. وينبغي عليه أن يحظى بالدعم المادي والمعنوي للاتحاد الأوروبي. وينبغي عليه أن يحظى بدعم الدول الكبرى كالصين واليابان.. والأخطر من كل ذلك ينبغي عليه أن يحظى برضا اللوبي اليهودي الجبار في أميركا ذاتها. وفي أثناء كل ذلك سيكون طريق السلام مزروعا بالألغام والمتفجرات من قبل المتطرفين اليهود وجماعة «القاعدة» في آن معا! هكذا نلاحظ أن المشكلة معقدة أكثر مما نعتقد وأنها بحاجة إلى معجزة لكي تنحل بالفعل.