التراجع من أجل النجاح

TT

قد يبدو غريبا على الأميركيين، في موعد قريب من احتفالاتنا بعيد الاستقلال، أن يروا العراقيين يطلقون الألعاب النارية عندما تنسحب قواتنا. فلسنا معتادين على أن نكون من يلعب الدور البريطاني. وفي العراق، يبدو كل إنجاز تقريبا محاطا بالغموض. ولكننا نشاهد إنجازات على الرغم من كل شيء.

ولم يكن الانسحاب الأميركي الأخير تحولا عسكريا حاسما. ووحداتنا لم تعد تقوم بعمليات عسكرية أحادية الجانب. وفيما عدا بغداد والموصل، كان الوضع كذلك في العراق منذ أشهر. وستظل القوات الأميركية موجودة في الشوارع تلعب دورا ثانويا إلى جوار العراقيين. ويمكن أن تقدم القوات الأميركية سريعة الاستجابة المساعدة في لحظة. وقد زادت الهجمات الكبيرة، التي يقوم بأغلبها تنظيم القاعدة في العراق، في الأيام الثلاثين الأخيرة، مقارنة بالأشهر الماضية، وذلك ربما بقصد ترك انطباع بأن القوات الأميركية أجبرت على المغادرة. ولكن يقول مسؤول في الإدارة: «لن يستطيع تنظيم القاعدة تصعيد حملة متواصلة. والهجمات شرسة، ولكن تنظيم القاعدة في العراق ما زال مقيدا».

وعلى الرغم من أن تسليم القوات الأميركية ليس حاسما عسكريا، فإنه حدث مهم من نوع آخر. إنه يمثل نجاح الأسلوب الذي بدا من قبل فاشلا، وهي استراتيجية «كلما قاموا بالتصعيد، تراجعنا».

إن ذلك من أكثر التراجعات الاستثنائية في تاريخ الحروب الأميركية. في عامي 2006 و2007، بعد أعوام من العنف المتزايد والتوقعات المخيبة للآمال، توصل العديد من العامة وأعضاء الكونغرس، مثل السناتور هاريريد، إلى أن «هذه حرب خاسرة». وأوصى البعض، مثل السناتور باراك أوباما في ذلك الوقت، بانسحاب أميركي فوري.

وبدلا من ذلك حوّل عدد من التطورات المتصلة غير المتوقعة الموقف في العراق تماما.

ـ وفر قرار الرئيس جورج بوش الفردي لإرسال تعزيز للقوات 24 شهرا إضافيا لتدريب القوات العراقية، والحفاظ على أمن المدنيين، ودعم الحلفاء القبليين والتخلص من زعماء «القاعدة» في العراق.

ـ وفي أثناء عملية الصحوة في الأنبار، ترك من 50 ألفا إلى 100 ألف جندي مشاة العدو وانضموا إلينا، ليسهموا بمعلوماتهم عن الأعمال الداخلية في الحركات الإرهابية.

ـ وذهب رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي، الذي انتخب بتأييد من المتشددين الشيعة جنوبا ليقضي على الميليشيات الشيعية التي تدعمها إيران في البصرة، ليصبح زعيما وطنيا وليس فقط شيعيا.

ـ وانضم السنة العراقيون بصورة تامة إلى العملية السياسية، وهو ما استوعب معظم الطاقة التي كانت ستخرج إلى الشوارع لولا ذلك. وتلك الإنجازات ليست تامة أو دائمة، ولكن نجاح السياسات الخارجية يقاس بمعايير نسبية لا مطلقة. وتجري المقارنة هنا مع الانسحاب الأميركي إذا كان قد وقع منذ عامين، وهو ما كان ليجعل منها فيتنام الثانية، بل أسوأ. كانت «القاعدة» في العراق ستسيطر على مناطق كاملة، وكانت قد أقامت بالفعل حكومة مؤقتة في الأنبار، لتكون لها قاعدة عمليات ضد الأصدقاء في الشرق الأوسط، والحلفاء في أوروبا، وضد الولايات المتحدة. وبمساعدة من إيران، كان الشيعة العراقيون سيخوضون حربا أهلية دموية ضد «القاعدة». وكانت الدول السنية المجاورة ستحث على التدخل، مما يؤدي إلى نشوب حرب إقليمية على الأراضي العراقية. وكان المدنيون العراقيون سيتعرضون لعنف الإبادة الجماعية. وكانت أميركا ستفشل، ليس في ميدان معركة آسيوي بعيد مثل فيتنام بل في الشرق الأوسط، محور مصالحنا الدولية منذ الحرب العالمية الثانية.

إذن ما الذي تحقق مع كل تلك التضحية والصبر والموارد الذي استهلكها العراق؟ إذا نجح العراق، إذا تمكن من تحمل ثقل حمل سيادته، سيكون ذلك تقدما تاريخيا. إن ديمقراطية غيفرسون لم تكن مفترضة أو منتظرة. ولكن ستكون التسوية العراقية التي يجد فيها الشيعة والسنة والأكراد أهدافا مشتركة فيما بينهم من خلال عمليات ديمقراطية نموذجا للمنطقة التي تسعى إلى نماذج جديدة تحرز التقدم. وسيكون كسب حليف أميركي مستقر في الشرق الأوسط الذي يواجه الإرهاب إنجازا سياسيا جغرافيا مذهلا. وبدلا من الخلافات الماضية، يجب أن ينظر أوباما إلى هذا الاحتمال ليس كعمل روتيني ولكن كفرصة.

وحتى إذا تراجع العراق إلى مستوى القدرة السياسية المتوسطة التي تحيط به، فقد تغير الوضع عما كان عليه منذ عامين. ولو كانت أميركا قد انسحبت حينها، لكان ذلك فشلا لإرادتنا وفشلا لجيشنا. ولكننا لم نفشل. وتأقلم الجيش على الوضع. وثابر قادتنا وبلادنا. وأعطينا للعراقيين ما وعدناهم به، فرصة معقولة للنجاح، وهي الهدية الوحيدة التي يمكن أن يعطيها المحرر. والآن، سيكون الفشل محزنا وصعبا، ولكنه سيكون من صنيعهم.

* خدمة «واشنطن بوست»

خاص بـ«الشرق الأوسط»