التوازن المعرفي والأخلاقي في النظرة إلى (الآخر)

TT

وثبت أن (الآخر) ليس ملاكا طاهرا كما يصوّر.

كان هذا هو موضوع مقال الأسبوع الماضي الذي انتقدنا فيه (الانحياز) الغريب إلى الآخر ضد (الذات): بلا منطق ولا عدل ولا عقل.

وفي أمة اضطربت معاييرها وموازينها يتحمل الكاتب مسؤولية إضافية وهي: الإمساك بميزان التوازن ابتغاء تكوين نظرة منهجية أخلاقية صحيحة إلى الآخر.. فقد يحسب أناس أن نقدا للآخر العنصري المتعصب النافي للآخر والمعتدي عليه هو نقد (شامل) لسلوك الآخرين جميعا، بمعنى أن كل مواقف الآخر خاطئة ومتحيزة وغير أخلاقية.. ولذا جاء هذا المقال تصحيحا لهذه (النظرة العوراء) أيضا، ذلك أن من الآخر من هو متسامح ومنصف وعقلاني وأخلاقي، وهذه هي الأدلة والقرائن على (الجانب الإيجابي) في صورة الآخر :

1- هناك مسلمون يتصورون أن المحافظة على الأخلاق محصورة في المسلمين.. وهذا خطأ مريع في التصور والحكم:

أولا: إن الأخلاق الإنسانية أوسع من أن تحصر في أمة ما، أو في أهل دين ما.. هذا من الناحية المنهجية المعرفية العامة.

ثانيا: أما من الناحية العملية أو التطبيقية. فالوقائع تثبت صحة النظرة المنهجية المعرفية العامة (فهناك غير مسلمين يتمتعون بأخلاق عالية):

أ- شهد القرآن بـ(الأمانة) لطائفة من أهل الكتاب وهم هنا اليهود: «ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك».

ب- قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق».. والمعنى: أن النبي وجد في الجاهلية التي سبقت بعثته (أخلاقا) فجاء ليتممها.. لا لينشئها!!

ج- الصين تغلق 1911 موقعا إلكترونيا إباحيا حفاظا على الأخلاق العامة، جرى ذلك في إطار حملة وطنية تشمل الصين كلها.. وفي الصين أيضا سن قانون يحظر المشاهد العنيفة والإباحية في الأفلام (فالصين تنهى عن المنكر بطريقتها).

د- في الولايات المتحدة الأميركية تعزم الأندية الرياضية إلى فصل الرجال عن النساء بعد تزايد عدد أصوات النساء (مسيحيات ومسلمات ويهوديات) اللائي يطالبن بضرورة فصل الجنسين في السباحة في الأندية الرياضية محتجات بأن الاختلاط (غير لائق) وغير مريح للنساء المحترمات.. وفعلا جرى الفصل - في أكثر من ولاية ومدينة - بين الجنسين بواسطة تركيب عوازل تمنع كشف الرجال على النساء وهن يرتدين ملابس السباحة!

هـ - في الولايات المتحدة أيضا سجل الخط البياني أن الأميركيين أكثر شعوب العالم إقبالا على العمل التطوعي الخيري الإنساني: تبرعا بالمال.. وانخراطا بالذات في نشاطات هذا العمل.

2- وهناك أناس يتصورون أن (الآخر) لا يعدل!!.. وهذا غير صحيح.. نعم هناك آخر يحترف الظلم ولا يكف عنه، بيد أن هناك (آخر) يعدل ويتحرى العدل.. وهذه نماذج تطبيقية أيضا:

أ- طالب كبير أساقفة كانتربري ورئيس الكنيسة الإنجيلية العالمية بمراعاة حقوق مسلمي بريطانيا التشريعية في مجال الأحوال الشخصية في القوانين البريطانية.. وهذا موقف عاقل وعادل من هذا الأسقف المحترم.. وهو من فئة (الآخر) وليس من فئة المسلمين!

ب- أوصت مجلة (لي أوسير فاتوري رومانو) وهي المجلة شبه الرسمية للفاتيكان، أوصت بأن تتبنى المصارف الغربية نظام الحماية الموجود في الصكوك الإسلامية، وأكدت أن استخدام هذه الصكوك يعد حلا من حلول إنقاذ صناعة السيارات!

ج- في السياق نفسه: هناك مؤشرات عديدة تنبئ بتحول أميركا إلى مصدر كبير لمستثمري الصكوك الإسلامية.

قد يقال: إن هذا سلوك أملته (المصلحة) البحتة.. ونقول: هذه ذاتها فضيلة لا معرة.

أولا: لأن المصلحة دليل على العقل، وليس يعاب عقل عاقل.

ثانيا: إن الأخذ بـ(شيء) إسلامي والإعلان عن ذلك يدل على (العدل): العدل في الشهادة لاجتهاد إسلامي متواضع بالقدرة على الإسهام في حل معضلات العالم.

د- تتابعت السفن المبحرة من قبرص إلى فلسطين المحتلة والتي تبتغي كسر الحصار عن غزة، وإيصال الطعام والدواء إلى الجياع والمرضى هناك.

ويلحظ: أن معظم الذين تحملهم سفن الإسعاف هذه هم من غير العرب وغير المسلمين (وفيهم حاخامات يهود)!! وهذه (عدالة) لا تفرق بين الناس بسبب أديانهم وجنسياتهم.. يضم إلى ذلك أن هذا السلوك محمدة أخلاقية عالية وراقية يتحلى بها الآخر.. ولذا يخطئ من يتصور أن (المروءة) مكرمة عربية فحسب، بل المروءة خلق إنساني عام يوجد في كل إنسان سوي الفطرة والعقل والضمير.

هـ - يقول المؤرخ الغربي الشهير هربرت ويلز في كتابه (موجز تاريخ العالم).. «لقد تم للعرب في حقول العلوم الرياضية والطبية والطبيعية ضروب كثيرة من التقدم، ولا شك أنهم وفقوا إلى مستنبطات هائلة في المعادن، وفي التطبيق الفني لها، ولهذه التطبيقات قيمة قصوى وأثر عميق في نهضة العلوم الطبيعية في أوروبا».. وهربرت ويلز من فئة (الآخر): ليس عربيا ولا مسلما.

و- ويقول المؤرخ الأميركي الكبير بول كينيدي في كتابه (نشوء القوى العظمى وسقوطها)..: «إن قسطا كبيرا من الموروث الثقافي والعلمي الأوروبي هو في حقيقة الأمر (استعارة) من الإسلام والمسلمين».. وبول كينيدي ـ كذلك - من فئة (الآخر): ليس عربيا ولا مسلما.

وإذا كان هناك (آخر) ينكر ذلك كله، بل يتهم الإسلام بالتخلف وعدم الإسهام في بناء الحضارة المعرفية للإنسان، فإن الشهادات الآنفة تثبت أن (آخر مختلفا) يعترف بحقيقة تأثير الإسلام والمسلمين في بناء النهضة العلمية الأوروبية، وهو اعتراف يدل - بالقطع - على النزاهة الفكرية والتاريخية، وعلى (عدالة الضمير المعرفي) لدى هؤلاء الشهود الثقات الأمناء.

والتأصيل المنهجي الواجب ـ من قبل ومن بعد ـ للنظرة إلى (الآخر) والتعامل اليقظ معه هو (التفريق) و(التبعيض) في التصور والفهم والحكم، وهو تبعيض يقتضي ـ بالضرورة ـ التحرر التام من ذهان وغلو (التعميم) والإطلاق.

ومن القرآن نستنبط براهين هذا المنهج التأصيلي المعرفي:

أولا: برهان التبعيض والتمييز بين طائفة وطائفة:

1- «ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم وما يضلون إلا أنفسهم».. و(من) للتبعيض لا للعموم.

2 - «فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة»: فاليهود ليسوا جميعا كفروا بالمسيح عليه السلام.

ثانيا: برهان (التفريق) ـ في التصور والحكم ـ بين فريق وآخر:

1 - «وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون».

2- «وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون».. وفي الآيتين (فريق منهم) وهو مفهوم يعني: إن فريقا آخر لا يفعل ذلك.

ثالثا: برهان الكثرة والقلة، وهو برهان تمييزي أيضا:

1- «ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم».. (لاحظ): كثير منهم وليس كلهم.

2- «منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون».. ليسوا سواء ـ هاهنا ـ فمنهم أمة مقتصدة معتدلة إلى جانب كثرة سيئة العمل.

والخلاصة: إن الصورة لهذا العالم، أو للآخر ليست (أبيض وأسود) فحسب، فهناك ألوان شتى، ولكل لون تصوره وحكمه وطريقة التعامل معه.. وإذا كان من المريح للذات تصور العالم في صورة واحدة، فإن هذه الراحة اللذيذة«!!!» لا تقوم إلا على أنقاض النظرة الموضوعية، إذ أن تلك الراحة محض رغبة ساذجة في تصور العالم أو الآخر: ليس كما هو، بل كما يهواه المرء ويتمناه!!

تعالوا نتواثق على التعافي الفكري والمعرفي من (النظرة العوراء) للآخر:

أ- نظرة الذين ينظرون إليه وكأنه (شيطان رجيم) يلعن بإطلاق.

ب- ونظرة الذين ينظرون إليه وكأنه (ملاك طاهر) يمدح بإطلاق.

فالنظرتان خياليتان غير واقعيتين، ظالمتان غير عادلتين، جاهلتان لا تنطلقان من علم ولا معرفة.