لبنان: حكومة.. أم أزمة جديدة؟!

TT

بالرغم من توفر أكثرية نيابية واضحة المعالم، في المجلس النيابي اللبناني الجديد، ومن اعتراف الأقلية المعارضة بنتائج الانتخابات، وترشيح معظم النواب لسعد الدين الحريري لتأليف الحكومة الجديدة، وتكليفه بذلك، فإن العقبات التي انتصبت في وجه تأليفها، لا تزال تحول، بعد مرور أسبوعين وأكثر، دون اكتمال هذه الدورة الدستورية الطبيعية لتأليف الحكومات في لبنان. والسؤال الذي يفرض نفسه هو: من المسؤول عن هذا التأخير؟

جواب أول: إنها الأحزاب والقوى «المعارضة» السابقة، أي حزب الله وكتلة «أمل» وكتلة نواب الجنرال عون وحلفائه، التي تضع شروطا تعجيزية للمشاركة في الحكم، كالثلث المعطل والنسبية و«الشراكة» في الحكم.

جواب ثان: انه الرئيس المكلف الذي يؤمل في تأليف حكومة اتحاد وطني قادرة على العمل وممثلة لتوازنات القوى السياسية ومؤهلة لتوفير الاستقرار السياسي وتنفيذ البرنامج الاقتصادي والاجتماعي الذي يلبي مطالب الشعب. وهي طموحات كبيرة بالنسبة لواقع الحال السياسي في لبنان.

جواب ثالث: إنها الأوضاع الإقليمية والدولية الراهنة والمتحركة ـ ولاسيما موقف سوريا ـ التي تلقي بثقلها على المناخ السياسي اللبناني وترفع فوقه أكثر من علامة استفهام.

جواب رابع: إنها صعوبة التوفيق بين التقاليد الديموقراطية والسياسية والطائفية والمذهبية والحزبية والمناطقية، في تأليف الحكومات في لبنان. ففي دول العالم تتألف الحكومات من الحزب أو الأحزاب التي تشكل أكثرية البرلمان،- أو بقرار من رئيس الدولة في الأنظمة الرئاسية ـ ومن وزراء من أصحاب اختصاص أو وزن سياسي. أما في لبنان فعلى الحكومة ـ أي حكومة - أن تراعي تمثيل كل الكتل النيابية وكل الطوائف الدينية وكل المذاهب وكل المناطق وكل «الدول الإقليمية المؤثرة». إنها معادلة ذات قواسم متعددة، ليس من السهل ترجمتها عمليا إلى حكومة تحكم، أو إلى برنامج حكم واحد.

ولكن أيا كان الجواب الأقرب إلى الصحة، أو كانت هذه الأجوبة مجتمعة، هي العقبة، فإن لبنان لا يستطيع البقاء بدون حكومة. وتأخير تأليفها إلى أسابيع أو أشهر،- كما يتردد - ليس في مصلحة لبنان، لاسيما بعد أن أعادت الانتخابات الرئاسية والنيابية الأخيرة له، سمعته الإقليمية الدولية الطيبة، وجددت الثقة في استقراره واقتصاده. بل لا بد من حل. لا بد من خيار.

إن انتخابات رئاسة المجلس النيابي مرت بدون أزمة، لسبب بسيط وهو انه لم يكن هناك من مرشح شيعي منافس، داخل المجلس، للرئيس نبيه بري. ولأن الرئيس بري هو مرشح أكثرية النواب الشيعة في المجلس. وكان من المفترض أن يتحقق ذلك على صعيد رئاسة الحكومة التي هي، ميثاقيا، من حصة المسلمين السنة. لاسيما أن «تمثيلية» سعد الدين الحريري للطائفة السنية، بيروتيا وشماليا وصيداويا وبقاعيا، واضحة وثابتة. فلماذا، إذن، قامت هذه العقبات في وجهه؟ هل هي مجرد مناورات لاقتناص اكبر عدد من المقاعد الوزارية؟ ام أنها تهدف إلى منعه من تأليف حكومة؟ وماذا إذا بقي لبنان بدون حكومة شهرا أو شهرين أو ستة أشهر؟ ماذا إذا بقي لبنان محكوما بحكومة «تصريف أعمال»؟

قبل أن تجري الانتخابات النيابية الأخيرة، كتبنا، مع غيرنا، نقول بان هذه الانتخابات لن تحسم النزاعات القائمة في لبنان، بل ربما أدخلت لبنان في مرحلة جديدة من النزاعات والتجاذبات. ولم نكن مخطئين. أما وقد تحققت مخاوفنا، فان السؤال الذي يبقى معلقا هو: كيف إخراج لبنان من هذه الحلقة المفرغة التي يدور فيها منذ أربع سنوات، بل منذ ثلاثين سنة؟

هل بتعديل الدستور، كما يقول البعض؟ ام بتعديل اتفاق الطائف؟ ام بتعديل قانون الانتخابات النيابية؟ ام بتعديل النظام السياسي ـ الطائفي، برمته؟ ام بتطبيق الدستور واتفاق الطائف برمته؟ ام بتوصل القوى والأحزاب السياسية الوطنية والقومية والعقائدية الدينية، والعائلية، إلى الاتفاق على برنامج وطني ـ اقتصادي ـ اجتماعي مشترك؟

لو كان جميع السياسيين اللبنانيين يستوحون، فقط، اماني ومطالب المواطنين، ويخففون من «انجذاباتهم» الإقليمية والدولية، ويتغلبون على طموحاتهم واحقادهم، او كانوا يتحلون بعقلية وثقافة ديموقراطية حقيقية، لما كانت هذه الأزمات والمحن لتجتاح لبنان، كل عشرة او عشرين سنة، ولما كانت هذه الصعوبة في تأليف الحكومات والاتفاق على مفهوم واحد للوطنية والوفاق الوطني والديموقراطية. والى أن تبلغ السياسة في لبنان ـ رغم مستوى أبنائه الثقافي والحضاري العالي ـ هذا المستوى السياسي والوطني الديموقراطي الرفيع، فإن لبنان لن يعرف الاستقرار والسلم الأهلي والحياة الوطنية الديموقراطية التي يحلم بها أبناؤه. وطالما أن للوطنية أكثر من مفهوم وتحديد، وان هناك مفاهيم وتعابير سياسية ملتبسة أو مموهة أو قابلة لأكثر من تأويل (كالمشاركة، والاتحاد الوطني والوحدة الوطنية والوفاق والميثاق والتمثيل والمحاصصة والثلث الضامن والتوازن الطائفي والمذهبي) فإن الحياة السياسية في لبنان ستبقى دون مستوى قدرات أبنائه وطموحاتهم.

ويبقى كل تشكيل حكومة جديدة فيه، موضوع أزمة جديدة، بدلا من أن يكون بداية صفحة جديدة.