إيران وعسكرة البازار

TT

إن صناعة القرار في كثير من دول العالم، ليست مقصورة فقط على الحكومات، بل هناك مصادر وآليات مختلفة لصنع القرار والتأثير عليه، ومن ذلك وجود جماعات الضغط، والتي تختلف قوتها وقدرتها على التأثير باختلاف الدولة التي تعمل بها، ومكانتها في تلك الدولة، وتعتبر جماعات الضغط الاقتصادية إحدى أهم تلك الجماعات.

وفي دولة مثل إيران، تمثل القوى الاقتصادية المؤثرة في عملية صنع القرار المعروفة باسم (البازار) من أكثر الجماعات تأثيرا في صنع القرار السياسي (والبازار كلمة فارسية تعني السوق أو التجار) فالبازار يقوم بدور أساسي وفاعل في الحياة الاقتصادية، من خلال عمليات المضاربة والإقراض والاستثمار وغيرها، مما أتاح لهذه الطبقة قدرة التأثيرعلى القرار الاقتصادي والسياسي.

كما يحظى تجار البازار تاريخيا بمكانة متميزة داخل المجتمع الإيراني فهم القوة الأقوى اجتماعيا بعد المؤسسة الدينية (الملالي) ويعود ذلك للقوة الاقتصادية التي يملكونها والعلاقة القوية التي تربطهم بالمؤسسة الدينية، حيث تحولت من مجرد علاقة دينية إلى علاقة سياسية براغماتية.

وتعود جذور هذه العلاقة إلى أواخر القرن الثامن عشر، عندما تحالفت المؤسسة الدينية مع البازار ضد التجار الأوروبيين، الذين كانوا يتحكمون في التجارة وخاصة تجارة التبغ، نتج عن ذلك التحالف ما عرف بثورة التنباك، تلتها الثورة الدستورية في عام 1905.

ومنذ ذلك التاريخ والعلاقة بين البازار والملالي تزداد قوة فأصبح هذا التحالف ثابتا بين البازار كمركز اقتصادي له تأثيره الكبير في المجتمع الإيراني، وبين المؤسسة الدينية، فالتقت مصالح الطرفين في عهد الشاه وعارضت حكمِه لأسباب اقتصادية، سياسية، واجتماعية.

فالبازار بما يمثله من مصالح تجارية وما درج عليه من إنتاج للسلع الصغيرة عارض «الثورة البيضاء» للشاه والتي كان الهدف الرئيس لها تقليص دوره السياسي وإضعاف تحالفه مع المؤسسة الدينية، وذلك من خلال إنشاء الشركات الكبرى لتحل تدريجيا محل البازار.

مما حدا بالتجار إلى أن يبادروا لممارسة دورهم السياسي من خلال التحالف مع المؤسسة الدينية للإطاحة بالشاه والمحافظة على مصالحهم الاقتصادية ودورهم في صنع القرار السياسي.

وبعد سنوات من قيام الثوره تشهد الساحة الإيرانية حاليا ظاهرتين مؤثرتين في التحالف التاريخي بين المؤسسة الدينية والبازار وهما: أولا تنامي نفوذ الحرس الثوري داخل البازار نفسه، وانخراطه في الأنشطة الاقتصادية الإيرانية، حيث قام بإنشاء الشركات الضخمة، والسيطرة عليها، وأخذ يمارس العديد من الأنشطة التجارية المختلفة، من صناعة الغذاء إلى الإشراف على حقول النفط والغاز، وغيرها من الأنشطة التي كانت حكرا على البازار.

ثانيا: تزايد هروب رأس المال من البازار إلى الخارج، حيث بلغ في عام 2008م أكثر من 3 مليارات دولار وفقا للتقارير الدولية، وهو مؤشر على عدم اطمئنان التجار إلى المناخ الاستثماري في الداخل، نتيجة للدور المتزايد للشركات الكبرى التي يديرها الحرس الثوري ومنافسته لهم، وهذا الهروب المتزايد لرأس المال، يوضح أيضا الارتباط العضوي بين البازار والمؤسسات المالية العالمية التي تهرب إليها هذه الأموال.

كما يمثل دلالة قوية على بروز جيل جديد من تجار البازار الذين يرون أن مستقبل البلاد هو في اقتصاد حر ومفتوح قائم على علاقات طبيعية مع دول السوق في العالم وبعيدا عن احتكار الدولة والحرس الثوري لتلك العلاقة.

فهل ينجح هذا الجيل من التجار في أن يعيد الدور التاريخي للبازار في السياسة الإيرانية ولكن بثوب جديد يتناسب مع التحولات الدولية وآلياتها الاقتصادية، لينقذ البلاد من المأزق الذي هو فيه.

وذلك من خلال التحالف بين جيل البازار الجديد والرموز الإصلاحية في المؤسسة الدينية، هدفه بروز إيران جديدة تمارس دورا اقتصاديا وسياسيا إيجابيا ومؤثرا في المنطقة، بل وفي العالم.

أم أن عسكرة البازار يسير على نهج «الثورة البيضاء» في عهد الشاه نحو التقليص التدريجي للدور الاقتصادي والسياسي للبازار.

وبذلك يكون الحرس الثوري الإيراني، قد دقَّ المسمار الأخير في نعش العلاقة التاريخية، بين المؤسسة الدينية وبين البازار، وكذلك في فرص الاندماج الاقتصادي لإيران في اقتصاد السوق لتصبح قوة اقتصادية واعدة.

[email protected]