مات والجمر ما زال متقدا بقلبه

TT

يبدو أن «المعاكسات» أو المغازلات متأصلة ومتوارثة في الأجيال العربية. والمغازلات مختلفة، فمنها المغلف بالأدب، وهذا مما قد يغض عنه الطرف أحيانا، والصنف الآخر ممتلئ بثقالة الدم والرزالة، فتجد الرجل من هؤلاء يتخلى عن وقاره ويظل يلاحق المرأة المستورة مثلما يلاحق الذباب الدبق.

وفي كتاب «طوق الحمامة» يروي ابن حزم التالي:

كان الشاعر يوسف بن هارون، مجتازا عند باب العطارين بقرطبة، وهذا الموضع كان مجتمع النساء، فرأى جارية أخذت بمجامع قلبه، وتخلل حبها جميع أعضائه، فانصرف عن طريق الجامع وجعل يتبعها، فلما رأته منفردا عن الناس لا هم له غيرها انصرفت إليه قائلة: مالك تمشي ورائي؟!، فأخبرها بعظم بليته بها، فقالت له: دع عنك هذا، ولا تطلب فضيحتي فلا مطمع لك فيّ البتة، ولا إلى ما ترغب من سبيل.

قال: إنني أقنع بالنظر، فقالت: ذلك مباح لك، فسألها: يا سيدتي أحرّة أنت أم مملوكة؟ قالت: مملوكة، فسألها مرة أخرى ما اسمك؟ قالت «خلوة»، قال: ولمن أنت؟ فقالت له: علمك والله بما في السماء السابعة أقرب إليك مما سألت عنه، فدع المحال، فقال لها: يا سيدتي وأين أراك بعد هذا؟ قالت: حيث رأيتني اليوم في مثل تلك الساعة من كل جمعة. ومضت هي في حال سبيلها، فيما عاد هو وذهب إلى الجامع، ولا أدري كيف كانت صلاته؟!

غير أن «ابن هارون» قال فيما بعد: من يومها ذاك لم أرها أبدا، رغم أنني حرصت أكثر من شهر كامل من أن أحضر في كل يوم جمعة وفي المكان نفسه والساعة نفسها ولا أجدها، ولا أدري أسَماء لحستها، أم أرض بلعتها؟! وإن في قلبي والله منها لأحر من الجمر.

ويبدو لي أن ذلك الشاعر قد مات بحسرته والجمر ما زال متقدا بقلبه. وأعتقد أن تلك الجارية (المملوكة) أرادت أن تتخلص منه بأدب فكان لها ما أرادت. وهي تختلف نهائيا عن امرأة أخرى في مدينة خليجية، عندما كانت قبل أسابيع تتسوق في أحد «المولات» مع أطفالها، وأخذ أحد الرجال الثقلاء يطاردها ويتابعها ويترصدها من مكان إلى مكان بالابتسامات والإشارات والكلمات ويرسل لها رقم تليفونه. حاولت أن تتجاهله، وأن تصده، وأن تشتمه، ولكنه كان يزيد في ملاحقتها معتقدا بالمقولة السخيفة عن النساء أنهن «يتمنعن وهن الراغبات». ووصلت المرأة إلى مكان للألعاب وتركت أطفالها هناك يلهون، ثم خرجت ووجدت الرجل لا يزال واقفا يحملق فيها، فأشارت له تدعوه وكأنها تريد أن تلاطفه، وعندما اقترب منها، وإذا بها تختطف عقاله من على رأسه بسرعة، ثم تهوي به أولا على وجهه ثم على صدره، ومن شدة المفاجأة استدار محاولا الهرب غير أنه تعثر بثوبه وسقط على الأرض، عندها أخذت المرأة راحتها، خصوصا أنها كانت جسيمة وهو رجل صعلوك، وهات يا ضرب «ومن فين يوجعك» وسط استحسان وتصفيق الجميع، ولولا تدخل «السكيورتي» وافتكاكهم له منها، لكانت «هرته» وقطعت جلده.

الحقيقة أنها امرأة محترمة، ولكن أقول لكم الحق: لو أنني شاهدتها بالسوق لأطلقت لساقي الريح وتركت لها السوق كله ـ وعلى فكرة ـ بعدما قرأت الخبر، أصبحت أذهب «للمولات» بدون عقال.

[email protected]