إنها لحظة إسدال الستار على وحدة حركة فتح

TT

كانت جلسات «اللجنة التحضيرية لمؤتمر فتح السادس» تنعقد في عمان بشكل متوال. وكانت تشهد خلافات وتوافقات حول المؤتمر، تمحورت حول ثلاث قضايا: مكان عقد المؤتمر في أراضي السلطة الفلسطينية أم في عاصمة عربية. أعضاء المؤتمر من هم وكم عددهم ومعايير اختيارهم. أخيرا الوثائق التي ستعرض على المؤتمر وبأي نهج سياسي ستكون، نهج مواجهة الاحتلال الإسرائيلي أم نهج انتهاء هذه المهمة والانخراط في بناء السلطة؟ وشهدت لجنة الحوار، كما هي حال فتح دائما، تيارات ووجهات نظر، إلى أن وقع حدث غريب من نوعه. إذ أعلن محمود عباس رئيس الحركة منفردا، حل اللجنة التحضيرية التي يترأسها محمد غنيم (أبو ماهر)، وهو أيضا عضو القيادة العليا لحركة فتح. وأعلن محمود عباس منفردا أيضا دعوة عدد من كوادر حركة فتح الموجودين في الضفة الغربية إلى اجتماع فوري في مقر الرئاسة الفلسطينية. واتخذ الاجتماع المذكور، حيث جل أعضائه من لون سياسي واحد، قرارا نافذا وقطعيا، بشأن المسائل الثلاث المطروحة للحوار والجدل في «اللجنة التحضيرية» المنحلّة. وقرر أن المؤتمر سيُعقَد في الداخل، وأن العضوية فيه ستكون مفتوحة بين 1200 ــ 1600 عضو، بحيث تتيح المجال للتغيير والتبديل، والوثائق ستكون باتجاه انتهاء المواجهة المسلحة مع الاحتلال (تبقى واردة في المبادئ العامة وتُشطب من برامج العمل).

كان هذا الذي حصل في وجه اللجنة التحضيرية وضدها، انقلابا بالمعنى الكامل للكلمة، انقلابا داخل حركة فتح، يقوده وينفذه رئيس الحركة، ويهدف في النهاية إلى السيطرة عليها تنظيميا وفكريا وسياسيا، وبدعم من مجموعة تمثل تيارا واحدا داخل حركة فتح من حيث اللون السياسي، وتيارا واحدا من حيث العضوية. وأدرك الجميع هنا، أن ما حدث في رام الله هو مقدمة فعلية لانشقاق داخل حركة فتح، انشقاق بين تيار واحد يقيم في الداخل، ويستقدم له من الخارج أيضا ما يشبهه، وإقصاء لأي تيار آخر معارض. وأدرك الجميع أيضا أن الأمور هنا لن تكون محصورة في نطاق الآراء والتوجهات فقط، بل ستفرز قيادة ذات لون واحد، في اللجنة المركزية لحركة فتح، وفي المجلس الثوري للحركة، وهما الهيئتان التنظيميتان الأساسيتان فيها.

مضت أيام على هذا القرار الذي اتخذه رئيس حركة فتح محمود عباس، ساد فيها نوع من الاحتجاج الصامت، لولا بيانان صدرا باسم كوادر حركة فتح المقاتلة، ومن دون أي أسماء، يعلنان رفض ما تم، ويتهمان القابعين وراء ما جرى بأمور كثيرة، إلى أن بادر فاروق القدومي (أبو اللطف) إلى عقد مؤتمر صحافي في عمان فجر فيه قنبلة أقوى من قنبلة محمود عباس، وهو وحده القادر على تفجيرها. «قال إن فلانا أو فلانا من حركة فتح قد تواطأوا مع آرييل شارون من أجل قتل ياسر عرفات). فهو أولا من مؤسسي حركة فتح. وهو ثانيا عضو في لجنتها المركزية. وهو ثالثا أمين سر لجنتها المركزية (القيادة العليا)، وهو رابعا رئيس الدائرة السياسية في منظمة التحرير الفلسطينية، وهو خامسا وزير خارجية دولة فلسطين التي أُعلنت عام 1988. ومع تفجير قنبلة سياسية يقف خلفها كل هذا الوزن السياسي للقدومي، يمكن القول إن الانشقاق داخل حركة فتح لم يعد بعد الآن مسألة تحليل أو استنتاج أو توقع، إنما أصبح الانشقاق أمرا واقعا، يقود جناحه الأول مسؤول فتحاوي كبير في رام الله، ويقود جناحه الثاني مسؤول فتحاوي كبير في عمان ــ وفي تونس. ويبقى الآن أن ننتظر مواقف كوادر وأعضاء حركة فتح، وكيف ستعلن عن انحيازها إلى هذا الجانب أو ذاك. وقد تعلن عن لا مبالاتها فتسير الأمور إلى انهيار أسرع.

وهناك من المتابعين لما يجري في حركة فتح، والعارفين بأجوائها وتياراتها وقضاياها، من يتوقع أن لا تسير الأمور بعد الآن بيسر وسهولة، وأن لا تعتمد التطورات على الفكر أو على المنطق وحدهما. فالجناح الفتحاوي الرابض في رام الله، يملك المال الذي يؤمّن من خلاله رواتب العشرات بل والمئات من المتفرغين داخل حركة فتح. ويملك المال الذي يؤمن خلاله أيضا رواتب الذين تتم إحالتهم للتقاعد، بعد سن الستين، أو بعد سن الخامسة والأربعين إذا رغبوا، ويتم دفع رواتبهم من ميزانية وزارة المال في السلطة الفلسطينية، أو من ميزانية الصندوق القومي الفلسطيني الذي يواصل منذ سنوات، تنفيذ سياسة إبعاد جيل المقاومة، من فتح وسواها، إلى عالم التقاعد.

إنها إذا حرب مال، وحرب تجويع، قد نشهدها في الأشهر المقبلة، ستؤدي إلى أن يجوع البعض ويبحثوا لأنفسهم عن مخرج، أو ستؤدي إلى أن يصمت البعض عن إعلان الرأي من أجل ضمان وصول لقمة الخبز إلى عياله. وهو وضع محزن، ووضع مؤسف، يمكن أن ينتهي إليه مصير مقاتلين ومناضلين وكوادر وكفاءات، عملت على امتداد سنوات طويلة، في صنع ما يسمّيه التاريخ «الثورة الفلسطينية». وبدلا من التمجيد والتكريم، يواجه هؤلاء، إرهاب الصمت، أو إرهاب الجوع، أو مأساة العيش على الهامش.

ولكن حركة فتح إذ تنشق، لا تنشق إلى فريقين فقط، إذ ربما تنشأ بعد الآن انشقاقات متتالية، فينشأ انشقاق مستقل في بلد عربي، أو انشقاق مستقل في بلد أوروبي، لنجد أنفسنا أمام انشقاقات فتحاوية متتالية. ولكن هذه الانشقاقات لن تكون نتيجة حتمية، إذ قد ينشأ بدلا منها تلاشٍ متدرج لعضوية الحركة، بحيث يضمر جسمها ووجودها ونفوذها يوما بعد يوم، حتى يأتي يوم لا تكون حركة فتح فيه إلا جزءا من التاريخ.

إن هذا الانشقاق في حركة فتح يؤشر إلى نهاية وفشل المشروع الوطني الفلسطيني الذي قادته حركة فتح، عبر منظمة التحرير الفلسطينية وبرنامجها السياسي المعلن. إنه يؤشر إلى نهاية ثورة، وإلى فشل ثورة. والسؤال هنا: ماذا بعد نهاية الثورة وفشلها؟

ثورة إسبانيا فشلت أمام الجنرال فرانكو عشية الحرب العالمية الأولى، وهي التي كانت مصدر الإلهام لكل أدباء وشعراء وفناني أوروبا. وعند فشلها تحول بعض قادتها الذين لم يعرفوا سوى حياة الجبال، إلى مهربي سلاح عبر الحدود.

ثورة اليونان فشلت بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى. وعندما لم يرد ذكرها في أثناء مؤتمر يالطا عام 1945، وقررت الخرائط أن اليونان تقع داخل مناطق نفوذ أميركا والغرب، شريك الاتحاد السوفياتي في الانتصار على النازية، لم تعد الأسلحة تصل إلى الثوار، وهم الذين كانوا على أبواب الاستيلاء على السلطة في اليونان. ولم تصل الذخائر إلى المقاتلين المنتظرين في الجبال، وبدأوا يهربون أو يستسلمون.

والثورة الفلسطينية.. هل فشلت؟

ثمة مرسوم رئاسي صادر في رام الله يقول بأن كل مليشيا تحمل السلاح هي مليشيا غير شرعية.

ثمة إذن ثورة تفشل بقرار من قيادتها.