ائتلافات وطنية أم ائتلافات طائفية

TT

يبدو العراق قد بدأ يحذو حذو الدول الديمقراطية، لا أزعم في أمنه أو استقراره أو نموه، بل في تداوليته للسلطة والتي تضع قواه السياسية في سباق، وإعادة تنظيم للصفوف قبل كل موعد لهذه التداولية، أي الانتخابات، وكلما تُوقع من الانتخابات أن تنتج تغييرا وتقع على مفترق طرق باحتمال إفرازها لقوى ومناهج وسياسات جديدة، كانت أكثر إشغالا وترقبا، وبالطبع تزداد هذه الأهمية عندما تجري هذه الانتخابات في دولة تؤثر وتتأثر بشكل كبير بمحيطها، كما هو الحال في العراق، وقبله كما كان في الانتخابات اللبنانية، إذ كما جرى فيه، فإن التصعيد والإثارة، وبالقدر نفسه الخطر يتعاظم عندما تتصارع دول الإقليم القوية من خلال هذه الانتخابات، لذا نجد أن التحضير لها على مستوى القوى السياسية بدأ مبكرا، ليس في التنافس على تقديم البرامج وإيجاد تنوع في السياسات، أو في الشروع في الحملات الانتخابية، بل في شكل الائتلافات التي ستخوض الانتخابات، وهذه كانت أقل إلفاتا لو أنها تتشكل بين قوى متقاربة البرامج ومنسجمة في المشتركات، ولكن الأهمية تأتي من كون الخيار انقسم ما بين ائتلافات وطنية أو ائتلافات طائفية.

بدءا سأثبت ثلاث ملاحظات، الأولى سأركز على الائتلاف العراقي الموحد (الشيعي) لكونه يمثل الجسم الأكبر والمحرك للسياسة العراقية، ولأن خياراته ستحدد خيارات الآخرين. وثانيا سأهمل الدعوات للائتلافات الوطنية لأغراض تجميلية، كونها لا تستحق الوقوف. وثالثا سأبين عيوب أحد الخيارين والذي يعني، ضمنا، ترجيحا وأفضلية للخيار الآخر.

أخطر ما في عودة الائتلافات الطائفية هي أنها ستعيد التخندق الطائفي الذي غادرناه بكلف كبيرة وباهظة، إذ ستجدد الشحن الطائفي وستجبر أتباع كل مكون أن يظلوا في تلك الدائرة التي عينت لهم مسبقا بانتمائهم وليس باختيارهم، وأن يظلوا تابعين لأقطابهم، وهذا ما سيؤدي بالضرورة إلى رسوخ نظرية المكونات، أو تقسيم المجتمع العراقي عليها، والذي سيتم على حساب المواطنة، فاستعادة الهياكل السابقة يغفل بتعمد عامل الزمن والتطور، حيث إن تركيبة الائتلاف السابقة فرضتها ظروف معينة ونجحت الرسالة الطائفية بسبب من تلك الظروف، إذ بدا الائتلاف في مرحلة قرين الأصولية الشيعية التي أنتجت وستنتج لها إذا ما تكررت أصولية مقابلة مضادة، وهنا تكمن الخطورة، ومحاولات مده ليكون إطارا جامعا ستفشل، إذ سيبدو الائتلاف تجمعا لقوى ثيوقراطية، ولا يمكن تسويقه كإطار للقوى الوطنية الشيعية الديمقراطية أو العلمانية، وهذا ما سيؤدي إلى الخسران على المستويين، إذ سيخسر التعاطف الدولي الذي سينظر له كمشروع طائفة وليس كمشروع دولة، وإلى خسران أيضا على المستوى المحيط والإقليم، إذ سيستمر في الإحجام عن قبوله والتعاطي معه بتوجس على أحسن الفروض، ثم إن ذلك يعيد الصراع إلى صيغته الغرائزية ويكبحه من التطور ليصبح صراعا سياسيا على متبنيات، وعلى شكل الدولة وطبيعة نظام الحكم، فقد شهدنا في الانتخابات المحلية التي جرت في يناير (كانون الثاني)، والتي شكلت لحظة مفصلية في خيارات الناخب التي كان يفترض أن تجبر القوى السياسية على أن تستجيب لاختياراته، فبدل الانقسام الطائفي الذي تراجع، وإن كان بسبب من أن اللحظة التاريخية قد تغيرت أولا، ومن أنها جرت على مستوى مدن غالبيتها تضم نفس المكون ثانيا، إلا أنه مع ذلك فإن الانقسام تغير ليبدو بأنه بين المركزيين، من سنة وشيعة وعلمانيين من جهة، وبين اللامركزيين، من أكراد وبعض الشيعة من جهة أخرى، والتي انتهت بخسران اللامركزيين، بينما عُزي أداء المالكي في تلك الانتخابات المحلية وتقدمه إلى المفردات التي تبناها في برنامجه المؤكدة على الوطنية وعلى مركز قوي ومهاب الأصل له في الصلاحيات السيادية والأمنية وإدارة الثروات، مع وعد بإجراء التعديلات الدستورية لحل الالتباسات ومواضع التنازع، وبجعل النظام السياسي مفتوحا على قاعدة الأغلبية، وبما يحقق حكومة ومعارضة فاعلة، في حين لو تم الارتداد عن ذلك فإنه سيقوض الفرص التي بدت سانحة لإجراء حوارات مفتوحة حول المظاهر الأساسية للنظام السياسي العراقي، والتي تمثلت في جزء منها كنتيجة لسأم متعدد المظاهر، فقد سئم أفراد كل مكون من أجنحة العنف التي حسبت عليهم وفضلوا الركون إلى دولة وحدها تحتكر القوة وتطبق القانون، ومقتوا التقسيم على أسس فيدرالية عرقية ـ طائفية، ورفضوا المحاصصة التي اعتبرت معيقة لبناء الدولة بشكل فاعل ومثلت عامل إضعاف وحاجبا عن تمكن المهنيين والأكفاء من أن يشكلوا عماد بنائها، لذا التصقت المحاصصة بتقسيم المجتمع بين مجموعات عرقية ـ طائفية، وأن من شأن إعادة إنتاج ائتلافات ممثلة حصريا لهذه المكونات يعني بالضرورة تكريسا وتأبيدا لمبدأ المحاصصة بما يعنيه ذلك من إحداث عاهة مستديمة للدولة، في حين أن إلغاء المحاصصة التي عادت ممقوتة من الجميع لا يتم إلا بظهور كتل ائتلافية وطنية عابرة للطوائف والمكونات وكاسرة لاحتكارية التمثيل.

إذا كنا بطهورية عالية حملنا المحتل وزر كل الأخطاء فإنها الآن لحظة اختيارنا، والتي ستؤسس لعراق سوي من عدمه، ثم إن المحتل هو نفسه الذي احتل دولا وشعوبا قبلنا فقد احتل الأمريكان ألمانيا وخرجوا منها وتركوا أمة تشعر بقوة فكرتها القومية، وبتصميم على النهوض، وخرجوا من اليابان وتركوا أمة تفتخر بتاريخها وآخذة بأسباب قوة غازيها، وخرجوا من كوريا تاركين شعبا يغادر خموله ويتوثب كالنمر، وبازغا كقوة اقتصادية تحتذى، وغادروا فيتنام تاركين قوة سياسية قادرة وضامنة على توحيد الأمة الفيتنامية، فإن يخرجوا من العراق وليس فيه هوية وطنية جامعة، وليس فيه قوى سياسية تتفق على المصلحة العراقية العليا، فتلك الكارثة التي ستحيق بمستقبل بلدنا، والتي لن نجد من نلومه عليها إلا أنفسنا، فإذا كنا قد وجدنا الأعذار لكي نبرر فشلنا في إنتاج هوية وطنية جامعة عندما غادرنا الاحتلال البريطاني في بدايات القرن الماضي، فإن المبررات ستعود منتفية في ظل تجارب شعوب عديدة مرت بنفس الظروف، لذا فعلينا أن نأخذ حصتنا بتواضع من اللوم عن إعادة إنتاج الأخطاء نفسها في ظل احتلالين.