قارئ السكينة

TT

غريبة الدنيا. كم فيها من أناس كانوا سببا في سعادتنا وهم لا يعرفون عنا شيئا. وكم من أستاذ تعلمنا منهم ونحن لم نقف في بابهم ولا جلسنا في مدارسهم. وكم من رجال نحن مدينون لهم من دون أن نأخذ منهم فلسا أو أن نتناول على مائدتهم رغيفا.

عندما أعود إلى أيام الفرح تتراءى فيروز على النافذة حزينة تغني. تساعدني على حبي وتساعدني على حنيني وتبكيني بدموع الفرح والعزاء. وسوف أعدد ذوي الأفضال جميعا ذات يوم. أما الآن فأكتب في رثاء والتر كرونكايت. كان النموذج العالمي على أن الصحافي يمكن أن يكون معلما وأستاذا وناجحا وميسورا من دون أن يتنازل لحظة واحدة عن خلقه وصدقه وتواضعه الوافر. السنوات القليلة التي عشتها ما بين أميركا وكندا، كان فيها قلق شخصي كثير وكان فيها خوف على الوطن وكان الحاضر مضطربا وهزيلا. لكن في السابعة من كل يوم، كنت أشعر أن والتر سوف يطل وسوف يملأ الغرفة الصغيرة هدوءا وسكينة مهما كان وضع العالم.

السابعة من كل مساء كان السيد كرونكايت يقرأ أخبار الأرض في 23 دقيقة، ومهما كان الخبر مهماً كان هو أهم منه. ومهما كان مخيفا كان السيد كرونكايت ينشر هدوءا عجيبا. ومهما كان صاحب الخبر فاقدا للاحترام، كان السيد كرونكايت يمنحه شيئا مما لديه من احترام.

لم يكن للحدث أن يقع حقا إذا لم يقرأه السيد كرونكايت، لأن الناس كانت تعرف أنه لو لم يقع فعلا لما قرأه والتر. أذاع خبر إصابة جون كينيدي ثلاث مرات، وعندما أعلن في المرة الثالثة وفاته، عرفت أميركا أن رئيسها قد اغتيل. وعندما توفي ليندون جونسون بعد ذلك بسنوات اتصلت أرملته بالسيد كرونكايت لكي يكون أول من يذيع الخبر. وإلا كيف يمكن أن تضمن شيئا من العطف على زوجها.

كانت أميركا منقسمة حول فيتنام وحول ووترغيت. وكان الغش والخداع والفشل يملأ البلاد. وفي المساء كانت الأسر تجتمع لتسمع الأخبار من السيد كرونكايت، إنه عامل الاتزان الوحيد، بصدقه واحترامه ومهنيته وصوته الرعوي العميق.

كان يختم النشرة الكبرى كل يوم بجملة ملازمة: وهكذا هو حال الدنيا. ولم يكن أحد يقطع على نفسه متابعة النشرة قبل أن يرى السيد كرونكايت وقد مد يديه يجمع أوراقه قائلا: وهكذا هو حال الدنيا. وهذه الدنيا فقدت أعظم مقدمي الأخبار في تاريخها.