إفطار بخمسة ريالات

TT

ذهبت في رحلة إلى بلدة في الجنوب وكانت النية أن أقضي يوماً أو بعض يوم ثم أنتقل إلى بلدة أخرى على الساحل، وحيث إنني أعرف رجلا يعمل في محكمة تلك البلدة كموظف، فوجدت أنه من اللائق أن اتصل به وأسلم عليه.

والحق يقال أن الرجل فرح بي جزاه الله خيراً، وعرض علي أن أقيم في ضيافته بمنزله أو مزرعته. حاولت بشتى الوسائل أن أعتذر، ولكن دون فائدة، وكلما أتيت له بعذر كان إصراره يزداد، وعندما ضاق ذرعاً بأعذاري، فما كان منه إلا أن يفجر قنبلة كادت تخرق طبلة أذني وذلك عندما حلف (بالثلاث الحارمات) ـ أي حلف بالطلاق من زوجته إن لم أوافق على السكن عنده ـ.

ومثلما هو ضاق بأعذاري فقد ضقت أنا بالمقابل من إصراره، إلى درجة أنني في لحظة غضب وضعف فكرت جدياً أن أرد له الصاع صاعين ـ أي أرفض بأي شكل من الأشكال أن أسكن عنده وعندها حتماً سوف يقع الطلاق لا محالة.

وصمت فترة أفتعل التفكير ـ كنوع من (السادية) ـ وأنا أعلم يقيناً أن حياته الزوجية أصبحت معلقة بقراري، ولا تتصورون وقتها شعوري الذي أحسسته بالقوة، وأخذت أتفرس في ملامح الرجل الذي عرف أنه تورط (بحلفانه) ذاك، والحمد لله أن (النذالة) التي تصاحبني في بعض المواقف تخلت عني في آخر لحظة.

وقبلت أن أنزل ضيفاً عنده، وتهللت أسارير المسكين وكأنني قد أنقذته وأسديت له معروفاً، ولا أظن بعد حرقتي لأعصابه تلك أنه سوف (يحلف بالطلاق) مرة أخرى.

المهم أنني مكثت عنده ثلاثة أيام بلياليها، لم يكن يزعجني غير أصوات وألعاب وخناقات أطفاله وقت القيلولة، واستنجاده بي في الليل لمساعدته في تخليص رؤوس الخرفان العالقة بالسياج، وعلمت منه أن ذلك القطيع المكون من عشرة من الخراف قد اشتراها وهي حملان صغيرة ليعلفها ويكبرها ثم يبيعها بربح بعد ذلك، وعندما كبرت أصبحت كلما أدخلت رؤوسها بفتحات السياج تعلق بها، وتظل طوال الليل تثغو لإنقاذها فيوقظني من منامي لمساعدته.

وفي الصباح الباكر أجامله وأذهب معه إلى المحكمة كمتفرج وكمشارك أيضاً في طعام الإفطار، قد تستغربون وتتساءلون: وما دخل المحكمة في تناول الطعام؟! ومعكم الحق لو تساءلتم، ولكن ذلك أصبح عندهم تقليداً، فما أن يتكامل الجميع حتى يأتي أحدهم بسفرة طويلة من (البلاستيك) ويمدها بالممر الطويل بين المكاتب، وتأتي أطباق الفول والجبن والعسل وكذلك اللبن والشاهي، ويتقاطر الجميع ويتزاحمون بأكتافهم على تلك المائدة الأرضية القاضي بجانب السجين، والشرطي بجانب المتهم، والشاكي بجانب المشكو، والفراش بجانب الموظف، الكل في هذه الساعة سواسية كأسنان المشط، ليس هناك فرق، جميعهم يتكلمون ويتمازحون ويتضاحكون ويأكلون، وعندما ينتهون وتطوى السفرة، يمر أحدهم ويأخذ بالتساوي من كل واحد خمسة ريالات لقاء إفطاره.

ولكن ما أن ينتهوا حتى يأخذ كل واحد مكانه، ويعود القاضي إلى وقاره، والشرطي إلى صرامته، والمسجون إلى ارتجافاته، وترتفع أصوات المتداعين، وكل منهم يدلي بحججه، ويتحول المكان إلى خلية نحل.

وقد عرفت أن كثيرا من الخصوم كانوا يتصالحون وهم جلوس حول تلك المائدة الصباحية، ويخرجون متشابكي الأيدي، وكنت أنا المتفرج الوحيد الذي ليس لديه قضية، والوحيد الذي أعفوه من الخمسة ريالات.

وهكذا أفطرت ثلاثة أيام كاملة (ببلاش).

[email protected]