المنزل الآخر

TT

لم يكن للرئيس أمين الحافظ سوى الأصدقاء. ولكن كان له أيضا نوع من «الرفاق»، إذا خدم التعبير. «الرفاق» هم المجموعة من السياسيين والصحافيين والدبلوماسيين والضباط المتقاعدين، الذين كانوا يلتقون، ضحى كل يوم، في «السيتي كافيه»، التي أسسها منح دبغي امتدادا «للهورس شو» التي كانت أول ملتقى للنخب في شارع الحمراء.

سوف يفتقد لبنان كله مزايا أمين الحافظ وحضوره الجميل. لكن «السيتي كافيه» سوف يكون أول مقهى في تاريخ لبنان يدعو إلى حفل تأبين للرئيس الراحل. وكما كان الأمين جزءا من صورة لبنان الجميلة، المضادة للقباحات، كان رمزا صبوحا للمقهى. أو ما يسميه النمساويون، بكل تقدير «بيت القهوة». وعندما سافرت إلى فيينا قبل فترة قال لي سفير لبنان سمير شما: «تكريم الضيوف هنا يكون في المقاهي التاريخية لا في مطاعم الفنادق».

المقهى في بيروت هو نوع من النادي غير المغلق العضوية. فيه يقرأ الرواد صحفهم اليومية، وفيه يحلون (أو يعقدون) مشاكل البلد. ولا يلبث أن يصبح هو العنوان البريدي، بدل المنزل. وهو عنوان السؤال، أي إذا أردت أن تعرف أحوال صديق ما، أو هل هو مسافر أم لا، لا تسأل عنه في منزله أو في مكتبه، بل في مقهاه.

ولبيت المقهى أشخاصه وأفراده وطباعهم وصفاتهم. وقد اشتهر الرئيس الحافظ بطيبته وسماحته، فيما عرف منح بك الصلح، أو «البك»، للاختصار، بنزعاته الساخرة ودعاباته الجارحة والأوصاف التي يطلقها على الرواد والرفاق، وخصوصا على الأصدقاء والأقرباء. وتناقل المقهى البيروتي نوادر «البك» من جيل إلى جيل. القارص منها والضاحك. المفضوح المشاعر والمغطى بالتورية الذكية. وكان الرئيس الحافظ يقول مازحا إنه يخشى أن يمتدح أحدا أمام «البك» تعاطفا مع الممدوح.

أعطى «البك» المقهى اللبناني أيضا صفته الفكرية وسمعته السياسية. والمؤذي أن لمحات «البك» وخواطره ظلت شفوية، فيما ترك الكتابة لمن يسميهم «الحدادون». وكان يسخر من هؤلاء أمام الرئيس الحافظ، مرددا المثل الفرنسي «على كثرة الحدادة نصبح حدادين». وكان الرئيس الحافظ يحاول عبثا أن يشرح للبك أن الحدادة تصقل الحديد والتنك.