عبارات ومواقف تنتهك العدالة

TT

لا بد من قراءة تصريح وزيرة الخارجية الأميركية الأخير حول الاستيطان الإسرائيلي في ضوء اجتماع الرئيس أوباما مع مجموعة «جي ستريت» اليهودية في واشنطن، وفي ضوء رفض الحكومة الإسرائيلية الالتزام بالمرجعيات الدولية رغم ما يسمى بالضغوط ـ وهي ضغوط لفظية فقط ـ من قبل الولايات المتحدة وأوروبا. فقد قالت السيدة هيلاري كلينتون في تصريحها الأخير عن الاستيطان: «نعمل مع الإسرائيليين حول مسألة المستوطنات مع أننا نعرف أن الظروف السياسية صعبة»، إذن لم يعد العمل الأميركي يتسم بالضغط على إسرائيل لوقف الاستيطان، بل أصبح العمل مع إسرائيل يتسم بتفهم الظروف السياسية الإسرائيلية التي تمنعهم حكما من وقف الاستيطان! هذا موقف جديد للإدارة الأميركية يختلف تماما عن موقفهم المعلن مسبقا أن على إسرائيل وقف جميع أشكال الاستيطان، بما فيه النمو الطبيعي، كما نصت على ذلك كل المرجعيات والقوانين الدولية، بما فيها نص الرباعية الواضح، والتي يتغنون بشروطها، علما أن إسرائيل لم تنفذ أي بند من بنودها. إلا أن كلينتون لم تذكّر بشروط الرباعية تجاه إسرائيل، التي تتضمن «شرط وقف كل أشكال الاستيطان، بما فيها ما يسمونه بالنمو الطبيعي»، بل أعادت شروط الرباعية إزاء «حماس» كشرط أساسي للانفتاح عليها. وأكدت كلينتون أن على الفلسطينيين واجبات مثل «وقف التحريض»، وأنه يجب البناء على المبادرة العربية بالانفتاح على إسرائيل. وفي كل هذا تختار وزيرة الخارجية الأميركية من كل المرجعيات الدولية ما يناسب إسرائيل، وتتجاهل البنود المرتبطة بحقوق العرب، إذ إن الانفتاح على إسرائيل مشروط في المبادرة العربية بانسحاب إسرائيل الكامل إلى حدود 4 يونيو (حزيران) 1967 من جميع الأراضي العربية المحتلة، ومن ثم تبدأ الدول العربية علاقات مع إسرائيل. فكيف يمكن اختيار بند الانفتاح على إسرائيل وتجاهل أسبابه الموجبة، وهي الانسحاب الإسرائيلي من كامل الأراضي العربية التي احتلتها إسرائيل في عام 1967؟

وإذا كانت وزيرة الخارجية قد طالبت الفلسطينيين بوقف التحريض، مع أن هذه العبارة ظالمة لشعب يرزح تحت الاحتلال اليهودي منذ أكثر من ستين عاما، ومحروم من الحرية والعدالة وحقوق الإنسان طوال كل هذه العقود المظلمة، فكيف تصنف اعترافات الجنود الإسرائيليين حول الحرب على غزة، التي اعترفوا فيها للمنظمة الإسرائيلية «كسر الصمت» بأن القادة العسكريين الإسرائيليين «أصروا» على جنودهم «ألا يظهروا أي رحمة للمدنيين الفلسطينيين»، و«ألا يدخلوا غرفة أو منزلا قبل أن يطلقوا النار على من فيه»، و«أن يقتلوا الآن ويفكروا لاحقا». وإفادات الجنود هذه تكذّب تقارير الجيش الإسرائيلي السابقة، وتؤكد أن قادة وضباط وجنود الجيش الإسرائيلي ارتكبوا جرائم حرب راح ضحيتها مئات المدنيين العُزَّل في غزة. كل هذا ليس مجرد «تحريض» وإنما هو قتل مخطط ومتعمد للمدنيين العزل، فلماذا تصمت السيدة كلينتون وغيرها عن هذا التقرير؟ أم أنه سيكون مجرد خبر كأخبار حرق المستوطنين يوميا لمحاصيل الفلاحين الفلسطينيين، وقتل الجنود الإسرائيليين اليومي للشباب الفلسطيني، بالطبع من دون إدانة من الساسة الغربيين. بل وبالتزامن مع هذا التقرير وهذه الجرائم اليومية أعلنت واشنطن، على لسان وزيرة الخارجية الأميركية، أن «المطلوب من العرب الآن مبادرات ملموسة تجاه إسرائيل».

أما الرئيس أوباما فقد التقى يوم الاثنين بقادة يهود، وأكد لهم تمسكه «بالالتزام بأمن إسرائيل»، وأنه يطلب من «إسرائيل والفلسطينيين على التوازي» باتخاذ خطوات ملموسة نحو استئناف محادثات السلام، وأن هذا يتطلب «تضحيات من الجانبين». والسؤال في كل هذا هو أن عبارة «الطرفين» أو «الإسرائيليين والفلسطينيين» بالتوازي، عبارة ظالمة جدا للفلسطينيين المحرومين من الحرية وحقوق الإنسان، وهي عبارات متهاونة مع الجرائم الإسرائيلية، لأنه لا يوجد أي تكافؤ بين من يزرع المحصول ليجد المستوطنين اليهود يحرقونه برمته قبل الحصاد، وبين من يذهب لأداء الصلاة، ومن يمنعه بقوة السلاح، وبين شعب احتُجزَ برمته رهينة في غزة، وقوة احتلال غاشمة تُطبق عليه أسوار الحصار في البحر والبر والجو، ومن ثم يتحدث الغرب برمته عن القاتل والضحية، وعمّن يمتلك كل أسباب القوة، والآخر الذي يُعاقبُ بها كطرفين متساويين. لا بل إن العالم الغربي يتحدث عن أمن إسرائيل وضرورة حماية هذا الأمن، وهي المدججة بالسلاح النووي والممالأة الغربية، بينما هي التي تنتهك أمن كل فلسطيني يوميا على ترابه وأرضه الوطنية.

وفي هذا الصدد فإن تعليق الرئيس الأميركي أوباما بأن الشعب الفلسطيني يفتقر إلى القيادة له أسبابه الوجيهة، إذ إن إسرائيل عمدت خلال نصف القرن الماضي إلى اغتيال القيادات الفلسطينية في الداخل والخارج، فيما كان قادة الولايات المتحدة يتعاونون عبر أجهزة مخابراتهم لتنفيذ هذه الاغتيالات، كما تزج إسرائيل بالآلاف من هذه القيادات حتى أعضاء البرلمان المنتخبين في غياهب سجونها لتترك الشعب الفلسطيني من دون قيادة فاعلة. وبدلا من لوم الشعب الفلسطيني على افتقاره للقيادة، من الوجيه إحصاء مئات القيادات الفذة التي اغتالتها فرق الموت الإسرائيلية، وهناك وزراء حاليون وسابقون إسرائيليون ممن مارسوا الاغتيال بأيديهم للقادة الفلسطينيين. فالمشكلة إذن ليست غياب القيادة الفلسطينية، بل جرائم الاغتيال الإسرائيلية المدعومة من قبل الغربيين. والمشكلة هي رفض إسرائيل الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني، ومنها حقه في الحياة والحرية والاستقلال.

هذه القراءة للمواقف الأميركية الجديدة من الاستيطان والقضايا الأساسية في الصراع العربي ـ الإسرائيلي تقودنا إلى السؤال: أين نسير نحن العرب من هنا؟ وهل هناك احتمال لجهد أميركي لإيجاد حلول عادلة في الشرق الأوسط وفق المرجعيات والقوانين الدولية، أم أن السفينة تسير باتجاه المزيد من الضغط على العرب للتطبيع مع إسرائيل وحسب، مقابل لا شيء، وربما بعض الالتزامات اللفظية التي لن تقود إلى أي وقف للاستيطان أو إعادة لأي من الحقوق؟ السؤال الهام والكبير هو من المسؤول عن هذا الانحياز الغربي الواضح لحياة الإسرائيلي وأمنه على حساب الفلسطيني وأمنه وحقه في الحياة الكريمة؟ الاحتلال الإسرائيلي هو المسؤول الأول، وكذلك ازدواجية المعايير الغربية، كما أن الوضع العربي مسؤول إلى حد كبير. إذ في الوقت الذي يستمع فيه أوباما إلى قادة المنظمات الصهيونية ويلتقي بحكومة إسرائيل وممثلين عنها دوريا، من هو الذي يمثل وجهة النظر العربية، ومن يقدم الحقائق عن الوضع العربي للإدارة الأميركية كي يتحقق في واشنطن وغيرها من العواصم ذلك التوازن المطلوب جدا في فهم الصراع العربي ـ الإسرائيلي وآفاق حلوله؟

يبدو أن طبيعة هذا الصراع تدخل اليوم مرحلة مختلفة، إذ لم يعد من الممكن الركون إلى تحقيق هذا التوازن لدى صناع القرار في الغرب، ولا بد من فتح هذا الصراع إلى العالمية كقضية عدالة وحقوق، تماما كما كان الموقف من الحكم العنصري في جنوب أفريقيا حيث شاركت جميع القوى الدولية في مؤازرة المناضلين الأفارقة وحزب المؤتمر الوطني الأفريقي من أجل الحرية والعدالة. وبوادر انتقال هذا الصراع إلى العالمية أخذت في الظهور حيث تمثل السفن التي تحاول كسر الحصار عن غزة يقظة هامة في الضمير الإنساني لا بد من البناء عليها، كما تمثل مواقف العديد في الغرب من أكاديميين ومحامين بمقاطعة إسرائيل إلى أن ترضخ للشرعية الدولية، ظاهرة هامة لا بد من تشجيعها والبناء عليها أيضا، إذ إن المفارقة اليوم هي أن الولايات المتحدة وإسرائيل تسعيان إلى التطبيع مع الدول العربية من دون إعادة الأرض أو الحقوق، فلماذا لا يخرج هذا الصراع من إطار رسمي عربي محدد أصبح عبئا على الكفاح الفلسطيني بسبب عجزه وتفككه، ويطرح على الضمير الإنساني كقضية عدالة فقط؟ ولا شك أن الضمير الإنساني الذي أنصف جميع القضايا التحررية في العالم لن يألو جهدا في دعم قضية شعب فلسطين في نضاله من أجل الحرية والاستقلال. والسؤال المهم هو كيف يتم فعل ذلك؟ والجواب هو: بدلا من إعادة اختراع البارود يستحسن الاستفادة من تجارب الآخرين. وللذين يتوهمون أن التشجيع على التطبيع هنا أو هناك سينهي معركة الحقوق أو الإيمان المتجذر بها والعمل على استعادتها، نذكّر أن كل أحداث التاريخ تثبت أنه لا يموت حق وراءه مطالب، وأن الشعوب هي التي تصنع مصائرها، ولكن بعض الساسة يعتقدون أنه يمكن لهم تغيير منطق التاريخ هذا الذي أكدته تجارب قرون من الكفاح البشري من أجل الحرية. عبارات أميركية قليلة، ولكنها تشير إلى أن أمد الصراع سيطول، وأن آفاق الحلول العادلة لا تزال غامضة ومتلبدة بالسياسات الغربية الممالئة لغطرسة القوة الإسرائيلية.

www.bouthainashaaban.com