معركة الأفكار في العالم العربي

TT

هل الأفكار هي التي تغير العالم أم لا؟ هناك أطروحتان متطرفتان حول الموضوع. الأولى تقول بأن الأفكار أشياء نظرية تجريدية لا أهمية لها أو لا تقدم ولا تؤخر كثيرا في نهاية المطاف. وإنما العبرة بالقوة المادية أو العسكرية القادرة وحدها على قلب موازين القوى على أرض الواقع وتغيير الأمور فعلا. والبعض الآخر يتوهم بأن الأفكار هي كل شيء وهي قادرة على تغيير العالم بمجرد أن نكتبها حبرا على ورق. فما أن نكتب مقالة طنانة رنانة حتى يتغير العالم! في الواقع أن الرأي الصواب هو بين بين. فالتغيير لكي يحصل يلزمه أولا فكر جديد أو تشخيص جديد ومنير لظلمات الواقع ومشاكله العويصة. ثم بعد أن ينتشر هذا الفكر جيدا في أوساط الشعب المتعلم وتتبناه طبقة اجتماعية قوية بما فيه الكفاية يمكن أن ينتصر ويغير الواقع أخيرا. هذا ما حصل في أوروبا عندما تبنت طبقة البورجوازية أفكار عصر التنوير ودشنت الثورة الفرنسية مثلا وأطاحت بالطبقة الأرستقراطية الإقطاعية وأيديولوجيتها الأصولية وكل نظام الامتيازات والظلم الاجتماعي المرتبط بها. وبالتالي فلا نستطيع التقليل من أهمية الفكر أو نشر الأفكار الجديدة. فالواقع أن لها مرتبة الأولوية. في البدء كانت الكلمة.. ولا بد من ظهور فكر جديد أولا وانتصاره على الفكر القديم لكي ينجح التغيير ويترسخ في الدولة والمؤسسات، والمجتمع والعقليات.

ولو لم تكن الأفكار هامة، بل وخطرة، لما استماتت القوى المحافظة في ملاحقتها والتضييق عليها ومحاولة وأدها في مهدها. وأحيانا تلجأ إلى تصفية أصحابها، أي المثقفين، كحل أخير. انظر ما فعله اليسوعيون في فرنسا مثلا ضد الموسوعة العلمية والفلسفية التي نشرها ديدرو ودالامبير وبقية فلاسفة التنوير. كل شهر أو شهرين كانوا يطالبون السلطة بمضايقتهم وإيقاف المشروع لأنه يهدد الكنيسة والعقيدة المسيحية الراسخة. وبالفعل فقد توقف المشروع أكثر من مرة قبل أن يعاد استئنافه من جديد. ويقال بأن ديدرو أصيب بقرحة في المعدة بسبب كل هذه المضايقات والمناوشات المتكررة. وكان يكتب وعينه على النافذة: هل سيجيئون لاعتقاله ورميه في سجن الباستيل أم لا؟ ولكن مشروعه نجح في نهاية المطاف وانتصر على المشروع الأصولي القديم الراسخ الجذور في عقلية أبناء الشعب الفرنسي. ثم شكل كل هذه الحضارة الحديثة التي نشهدها حاليا والتي تعتز فرنسا وكل أوروبا بها.

والآن إذا ما ألقينا نظرة إجمالية على العالم العربي، فماذا نرى؟ نرى أنه يحصل شيء مشابه لما حصل في فرنسا وكل أوروبا ولكن بعد مائتي سنة من ذلك التاريخ. وهي مسافة التفاوت التاريخي بيننا وبينهم. فالمثقفون العرب ينقسمون أيضا إلى قسمين كبيرين: أصولي ماضوي متشبث بالقديم كما هو، وليبرالي مستنير يريد التغيير ودخول العصر والحداثة. وهناك قسم ثالث وسطي يقف بين بين. لن نستطيع تحاشي هذه المعركة مهما حاولنا التأجيل والتسويف والتعطيل. إنها مفروضة علينا فرضا من قبل ضرورات داخلية قاهرة وليس فقط من قبل قوى خارجية على عكس ما يزعم بعضهم.

عندما شكوت من هيمنة تأويل واحد للدين عندنا، هو التأويل الظلامي، اعتقد بعضهم أنني أدعو إلى تدمير الإسلام! أعترف بأني فوجئت بذلك كل المفاجأة. لكأن الظلاميين هم وحدهم الإسلام أو كل الإسلام! لكأنه لا يوجد إلا تأويل واحد للدين الحنيف! لا يا سادة، الأمور أعقد من ذلك وأكبر. ولا يمكن اختزال الإسلام إلى تيار واحد جاهل فقير عقليا بل ومدقع فكريا. منذ أقدم العصور والصراع دائر بين التأويل العقلاني المنفتح المتسامح الوسطي لرسالة الإسلام والقرآن، والتأويل المنغلق المتعصب الذي يرفض العلوم الدخيلة كالفلسفة والمنطق. الآن يقولون: الغزو الفكري. وأصلا أكبر كارثة في تاريخنا، والتي أدت إلى انهيار حضارتنا في العصر الذهبي، هي انتصار هذا الخط المعادي للعقلانية الفلسفية وإغلاق باب الاجتهاد قبل ألف سنة على الأقل. وبالتالي فالشيء المستهدف بالنقد والتفكيك ليس الإسلام ككل، وإنما هذا التيار الضال المنحرف الظلامي.