جمهورية «اللويا جيرغا» اللبنانية.. ترحب بكم

TT

«الاستقلال والحرية الحقيقيان لا يتحققان إلا عبر التصرف الصحيح»

(الزعيم المورموني الأميركي بريغهام يونغ)

اطلعت ذات يوم على خارطة إيرانية إقليمية تعود إلى أيام الاتحاد السوفياتي، فاكتشفت أن الاسم الرسمي الإيراني لـ«الجار» السوفياتي هو «اتحاد شوروي». وكلمة «الشوروي» تقابل «السوفياتي».. على أساس النسبة إلى «سوفيات»، أي مجلس ـ أو شورى ـ العمال والفلاحين.

مرت ببالي هذه الترجمة، عندما اكتشفت المعنى الحقيقي لمجلس النواب الذي انتخبه اللبنانيون، أو هكذا «شُبِّه لهم»،.. يوم 7 حزيران/ يونيو الماضي.

فكاتب هذه السطور، بعدما بلغ من العمر ما بلغه، وقرأ عن تاريخ لبنان ما قرأه، ورصد من سياساته.. ومسالك ساسته وممالكهم ما رصده.. يكتشف الآن حقائق كانت غائبة عن البال.

لقد كنت أظن، مثلا، ـ وبعض الظن إثم ـ أن اللبنانيين بعد كل ما مروا به من مغامرات ورهانات وخطايا جسيمة في التقدير والحساب، تعلموا شيئا من الماضي، لكن الحصيلة التي يعيشها البلد اليوم تؤكد أن تجارب الماضي لم تعلم أحدا شيئا.

فبعد انتخابات عامة حصل تفاهم مسبق على قانونها الانتخابي السيئ، وعلى شروط إجرائها، وعلى السلطة التي تجرى هذه الانتخابات تحت إشرافها.. عاد اللبنانيون إلى نقطة الصفر. وبدلا من أن يحسم الأمر بصورة نهائية فارق المقاعد الواضح (71 مقابل 57) بين الأغلبية والأقلية الأمر بصورة نهائية.. فتشكل حكومة «تحكم» في غضون أيام معدودات، إذا بنا نسمع عن «أغلبية شعبية» تختلف عن «الأغلبية البرلمانية». وعن أقلية تفرض شروط حكومة «الوحدة الوطنية»، بدلا من أن تنبع فكرة هذه الحكومة ـ كعادة ديمقراطيات العالم ـ من رغبة الأكثرية، إذا رغبت، بتحميل الأقلية تبعات تقاسم المسؤولية في الظروف الاستثنائية.

بل إن النائب ميشال عون ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، مطالبا بـ«النسبية» في توزيع مقاعد الحكومة (لماذا لا تطبق أيضا على مقاعد كسروان؟). وأيّده أحد «عباقرة» علم السياسة والتشريع من النواب البقاعيين السابقين، أخيرا بعد زيارة تضامنية، قائلا إن هذا هو الكلام الصحيح وما هو معمول به في أعرق الديمقراطيات الغربية (!).

أين؟

أساسا، إذا كانت نتيجة الانتخابات لا تقدم ولا تؤخر في حكم بلد ما.. فلماذا تجرى؟ وما هي الحاجة إليها؟

لماذا لا تكون هناك اجتماعات موسمية لمجلس عشائري أو قبلي، مثل «اللويا جيرغا» في أفغانستان، حيث «الوحدة السياسية الفاعلة» ـ كحال لبنان ـ هي العشيرة والقبيلة.. ومن ثم الميليشيات القبلية؟

ثم إذا كانت القيادات لا تشعر أمام ناخبيها بأي التزام مبدئي أو أخلاقي، وإذا كانت تعتبر نفسها فوق مستوى المحاسبة الشعبية، فلماذا تجشم نفسها وناسها عناء خوض تجربة انتخابية مرة كل أربع سنوات، تخض معها البلاد، وتستنفر غرائز العباد، وتسترجع أقبح أنواع الحقد، وتدمر آخر جسور الثقة بالتعايش والاحترام المتبادل؟

وإذا كانت البرامج الانتخابية مجرد حبر على ورق.. لماذا تشكل التحالفات؟

أما عن الناس، عن الناخبين، فهل يجوز لهم غسل أيديهم من تجاوزات قادتهم عندما يتصرفون هم، طائعين مختارين، كقطعان مسلوبة الرأي والموقف والإرادة؟

أليسوا هم أصحاب المصلحة الحقيقية في مستقبل أولادهم؟ أليسوا هم الذين يدفعون فواتير الحروب.. لكنهم نادرا ما يجنون ثمار «السلام الفوقي» الذي يباغتهم من حيث يدرون ولا يدرون؟

يقال اليوم للبنانيين إن الصورة العامة تدعو إلى التفاؤل. وأن الحكومة العتيدة ستشكل قبل نهاية الشهر الجاري. عظيم! ولكن، على أي أساس؟ ووفق أي منطق؟ وتجاهلا لأي ملفات؟ واستنادا لأي أغلبية؟ وباتجاه بناء أي وطن وأي مواطن؟

أعتقد أن أحدا ليس واثقا بعد من أن المناورات التي «ترتكب» اليوم بحق لبنان، بحجة تحصين الوضع الداخلي في وجه استحقاقات خطيرة مقبلة علينا، كفيلة ببناء الثقة. بل إن راديكالية الانقلابات والانفتاحات الحاصلة على الساحة جاءت أسرع بكثير من قدرة المواطن العادي على استيعابها. والأسوأ، أنها حتى ولو كانت تستند إلى حصافة استشراف الخطر الآتي، فـ«سلقها» والاستعانة بشخصيات مشبوهة في تسويقها وإخراجها.. يفرغان هذه الانفتاحات من صدقيتها.

نفهم أن الكتلتين اللتين خاضتا انتخابات 7 حزيران الماضي كانتا منذ البداية تجمعين فضفاضين لأحزاب وقوى جمعتها «المصيبة» أو الخصومة المشتركة قبل أن توحدها التطلعات والبرامج المتشابهة. لكن هل زالت حقا عوامل الخصومة المشتركة.. إذا كان من السابق لأوانه توقع إيجاد تطلعات متشابهة؟

من جانب آخر، أعتقد أن على العقل السياسي المسيحي أن يُدرك اليوم كم أخطأ عندما تساهل مع المسيحيين الذين شقوا الحركة الاستقلالية وانقلبوا عليها، بعيد انطلاقتها وقبيل انتخابات 2005، لكي يزعموا أنهم «شهداء» تآمُر مسلمي «التحالف الرباعي».. بينما «مسيحيو 14 آذار» مجرد عملاء للسنة والدروز. وكم كان الخطأ أكبر عندما توهم هذا «العقل» أن محاولة الاستفادة من الانقسام السني ـ الشيعي ستفضي إلى نسف «اتفاق الطائف».

على العقل السياسي المسيحي محاسبة نفسه قبل محاسبة الآخرين، رغم ضرورة محاسبة الجميع، لأنه كان ولا يزال صاحب المصلحة الأول في الشعارات التي طرحت عشية 14 آذار/ مارس 2005. فيومذاك، كان الشارعان السني والدرزي هما اللذان اقتربا من الساحة المسيحية «السيادية» التقليدية. وعليه، كان المنطق والمصلحة يقضيان بوقوف أوسع قطاع ممكن من المسيحيين مع الطرحين «السياديين» المستجدين عند السنة والدروز. وحسنا فعلت قيادات مسيحيي «14 آذار» في قراءة موقف القيادتين السنية والدرزية حتى عندما ارتأتا ـ ولو عن خطأ ـ عبر «التحالف الرباعي»، وجوب طمأنة الشريك الشيعي في الوطن إلى أن لديه مصلحة، كما لجميع اللبنانيين، في التخلي عن الرهان على الخارج.. وبالتالي العودة إلى الوطن.

لكن ما حصل هو أن غالبية المسيحيين خذلت صوت العقل ـ وبالذات صوت البطريرك نصر الله صفير ـ وانساقت وراء صوت المزايدة والتذاكي. ثم رغم انكشاف أمر التفاهمات الضمنية المسبقة بين ميشال عون ومن كان يعتبرهم خصومه، ظل 40% من المسيحيين في انتخابات 2009 ضد الخيار «السيادي»!

النتيجة، كما نرى اليوم، أن كل فريق عاد للأسف إلى أضيق أولوياته الطائفية. وعندما لا يعود السني أو الدرزي مستعدا لأن يكون «ملكيا أكثر من الملك» في موضوع «السيادة».. يكون المسيحيون قد فرطوا مجددا بفرصة ثمينة للمحافظة على ما تبقى لهم من رصيد وحقوق وامتيازات.