عودة عرفات: مرحلة «استحضار» الأرواح

TT

أعترف بأني عجزت ومللت من متابعة تفاصيل حوار «فتح» و«حماس» تحت المظلة المصرية. لكن مصر تبدو غير راغبة في التخلي عن الوساطة، على الرغم من أن المصريين عموما يضيقون بالتفاصيل. أظن أنه حان للواء القدير عمر سليمان نفض يديه من الجانبين، وتركهما لتحمل المسؤولية أمام التاريخ وأمتهما العربية. لن يشمت أحد بمصر فقد أدت واجبها القومي. بيد أنها لا تريد أن تتلقّف قطر الدور، وتنجح مع الفلسطينيين بدبلوماسية الإغراء السخي كما فعلت مع اللبنانيين.

غير أن الأمر الواضح الآن هو أن القضية الفلسطينية كلما اقتربت من الحسم ازداد الفلسطينيون تمزقا: فتح مصابة بتعب النسيج التنظيمي. حماس تقدم الانتماء للحزب (الإخوان) على الوحدة الوطنية. أما حكومة نتنياهو فهي تقول للعالم إن الانقسام دليل على غياب «أهلية» الفلسطينيين للاستقلال.

قضية انقسام السلطة والإدارة والأجهزة الأمنية تشكل إحدى العقبات الكأداء التي تعترض نجاح الوساطة المصرية. يغيب عن بال المتناحرين والوسطاء أن شرعية السلطة تفرض نوعا من الاستقلالية عن احتكار فتح وحماس. إنها لمهزلة أن يكون القضاة مثلا من «فتح» في الضفة ومن «حماس» في غزة.

لعل إحدى فضائل نظام محمود عباس قدرته على إنشاء أجهزة أمنية في الضفة، منضبطة ومستقلة. نعم، الأميركيون والأردنيون ساهموا في التدريب، غير أن المستفيد الأكبر كان المدني الفلسطيني في الضفة. مع الأمن النسبي، توفر الأمان والراحة. تحركت عجلة الاقتصاد والتنمية. اضطرت إسرائيل إلى التخفيف من حواجز الحصار. لا مقاومة بلا حرية. بلا احترام لكبرياء الإنسان العادي. فضيلة الأمن سوف تخدم عباس في أي انتخابات مقبلة. بل هو يتحدى حماس للقبول بانتخابات مبكرة، اعتمادا على «مصداقيته الأمنية» لدى مواطنيه.

تبقى المصداقية السياسية. دَفْعُ أميركا أوباما لعباس لاستئناف المفاوضات مع إسرائيل هو بمثابة انتحار سياسي للرجل. لا يكفي تجميد مؤقت أو دائم للاستيطان، هناك شروط إسرائيلية سامة وقاتلة، كشرط الاعتراف بيهودية الدولة، والضغط بالعودة إلى التلويح بتهجير عرب 1948 إلى الضفة أو الأردن، على الرغم من الاعتقاد باستحالة ذلك في الظروف الراهنة. هناك مبالغة في التأكيد على التهجير، تقوم بها الصحافة المشايعة لإيران، لتقويض عملية السلام.

اهتراء «فتح» هو الوجه الآخر للانقسام الفلسطيني. العرب يدخلون، في تخلفهم السياسي والطائفي مرحلة تحضير واستحضار أرواح الموتى. هناك استدعاء واستنجاد بسكان الأضرحة. هؤلاء لا نتذكرهم لتخليدهم، إنما نوظفهم ونستدعيهم لخدمة الغرض السياسي، والمصلحة الحزبية والدينية الضيقة.

«علمانية» محترف سياسي مخضرم كفاروق القدومي لم تمنعه من استعادة عرفات، لا لتخويف خصمه اللدود عباس. نستدعي الأرواح ونحن نعرف سلفا أننا نرتكب شكلا من أشكال الشعوذة المحرمة، عندما ننسب إلى الروح ما لا تستطيع نفيه. فالموتى محكومون بقانون الصمت الأبدي.

إلى أن يبرز القدومي الوثيقة التي يقول إن عرفات خصَّه بها وحده، فلا يمكن تفسير اتهامه لعباس بالتآمر مع شارون، سوى بالرغبة الجارفة لتوسيع الخرق الممزق لـ «فتح»، وهي على أهبة تضميد الجروح في مؤتمرها العام. لماذا سكت القدومي إلى الآن؟ الحجة ضعيفة.

قال إنه كان يخشى بوش! حسنا لماذا فجر قنبلته في عمان، وليس كما اعتاد في دمشق، أو في الدوحة، أو في صومعة عزلته التونسية؟ ربما لأن عمان على خلاف مستحكم مع عباس الرافض لمشروعها وصل الأحمر ببحر لوط.

لست مع عباس ضد القدومي. إنما تحكمني أحيانا في عملي الصحافي الرغبة في كشف التناقضات التي يقع فيها فرسان السياسة. أعود إلى ملاحظات أدونها مع الأيام، لأذكر القدومي بما قاله، يوما، عن الاتصالات الفلسطينية الإسرائيلية. يقول القدومي فيها قبل 26 سنة: «كلها شائعات، نحن نجلس على مائدة واحدة نتفاوض مع الإسرائيليين.. أستطيع أن أجزم أن هذه الاتصالات الإسرائيلية الفلسطينية التي تحدث عنها بعضهم لم تحصل ولم تتم». بعد ذلك أسأل القدومي: لماذا ينفي هذه الاتصالات في الماضي، ويؤكدها اليوم؟ واضح أنه يريد إدانة عباس في «التآمر» لتغييب عرفات.

إذا كان القدومي على خصومة مع عباس، فلم يكن على وفاق تام مع عرفات الذي يستدعيه اليوم. كان القدومي يفضل السير وراء حافظ الأسد، على مسايرة عرفات. ربما كان القدومي مدفوعا ببعثيته القديمة. على أية حال، إذا كانت هناك نقطة تحسب للقدومي، فهي حرصه على تعريب القضية الفلسطينية، في مواجهته الرافضة لشوفينية عرفات الاستغلالية. القدومي يعتقد أن لا نجاح لهذه القضية بفصلها عن عروبتها.

أعود إلى ملاحظاتي المدونة، لأجد أن القدومي كوزير خارجية فلسطين، لم يكن ناجحا في تكهناته السياسية. لم يتوقع نشوب حرب العراق. نفى إمكانية انسحاب إسرائيل من غزة. كان ضد تعيين رئيس وزراء للسلطة. اعتبر «خريطة الطريق» عملية «وهمية وإلهائية»، فيما لا تزال إلى اليوم قاعدة الانطلاق نحو الحل والدولة.

أمضي في تقليب سجل الملاحظات والمعلومات، لأجد القدومي يرفض خروج عرفات من فلسطين، «لأن أميركا وإسرائيل غير راغبتين في الضغط باتجاه طرد عرفات» من رام الله، فيما هو اليوم يزعم أنه «نصح» عرفات بالخروج باكرا، قبل توقيع الحصار عليه!

ليس سرا ما يقول القدومي، عن موت عرفات بالسم، أو بالعدوى بمرض فتّاك. لكن من الصعب قبول ادعائه بأن عباس «تآمر» مع شارون علي حياة الختيار. رأس مال عباس هو ما يوصف بـ «نزاهته السياسية» الحريص عليها. ألّف عباس لجنة للتحقيق في وفاة عرفات. لماذا لم تقم بمهمتها؟ إذا حققت، فلماذا لا يصارح عباس الفلسطينيين بالنتائج؟

ما هو دور شارون في «تصريف عرفات»؟ أعود إلى كتاب صدر في عام 2006 بعنوان «أحاديث حميمة» للإسرائيلي أوري دان. يقول المؤلف الصديق المفضل لدى شارون، إن رئيس الوزراء الإسرائيلي أبلغ الرئيس بوش، قبيل وفاة عرفات، أنه في حِلٍّ من وعده له بعدم مس حياة الزعيم الفلسطيني. عندما سأل المؤلف شارون عن مصير عرفات. أجابه: «دعني أقرِّر الأمور على طريقتي». وبعد.. القدومي عمره اليوم 81 سنة فهو مولود في عام 1928. أي أكبر سنا من عرفات وعباس. لعل خروجه عن حذره واتزانه المعروفين عنه عائد إلى ضعف ملكاته الذهنية مع التقدم في العمر. نشأ القدومي يتيما. زاده النزوح مرارة. لكنه ظل طوال حياته السياسية رجل تنظير وكلام.

مرارة القدومي وسلبيته تنطبعان بقسوة على سحنته. كان دائما يعتبر نفسه «حامل الهم والمصاعب». صلحه مع عباس (2006) لم يستمر. كان راغبا في الاحتفاظ بمنصبه كوزير خارجية، ويبقى على بُعد، ألوف الكيلومترات عن رام الله، موقع السلطة والقرار.

في السياسة، كما في الحب، هناك لحظة مناسبة لمصارحة الفتاة. لعل القدومي بعد الكف عن تحضير الأرواح، ينتهز الفرصة.

يعتزل في هذه السن. أحرى به أن ينصرف إلى كتابة مذكراته الحافلة. والشرط الوحيد لكتابة المذكرات، أن يكون الكاتب صادقا مع نفسه، قبل أن يكون صادقا مع التاريخ ومع غيره، من أحياء يعايشهم، وأموات يستحضر أرواحهم.