ولاية الفقيه والاستبداد الديني

TT

منذ مائة عام، ألف آية الله النائيني، أشهر منظّر للثورة الدستورية الإيرانية، كتابا بارزا عن نظرية الثورة الدستورية. ومن حسن حظنا، أن الكتاب ترجم إلى اللغة العربية على يد صالح كاشف غيتا، المعروف بالجعفري (1904 ـ 1979).

وفي البداية، نشرت بعض أجزاء الترجمة العربية في مجلة تسمى «العرفان» في بداية العقد الثالث من القرن الماضي. ثم نشرت أجزاء أخرى منها في مجلة أخرى تسمى «الموسم»، في العدد الخامس في العام الثاني عام 1990. وبعد ذلك، نشر رشيد الخيون تلك الترجمة متضمنة في كتابه «المشروطة والمستبدة» مع كتاب «تنبيه الأمة وتنزيه الملة» (من منشورات معهد الدراسات الاستراتيجية، بغداد، 2006).

وقد تحدث نائيني كأحد آيات الله العظام، وخبير في أصول الفقه، عن فكرة الاستبداد الديني لأول مرة في تاريخ إيران. وأكد على العقل. وكان يعتقد أن الإسلام متوافق مع التقدم، وفي نظرة بعيدة المدى، قال إن أسوأ أنواع الطغيان غير المحتمل هو ذلك الذي تفرضه دولة دينية.

وفي الفصل الأخير من كتابه، ركز آية الله نائيني على فكرتين أساسيتين: أولا الجهل، ثانيا الاستبداد.

ويقول في كتابه: «في استقصاء جميع القوى الملعونة في الدولة الحالية. الأولى؛ وهي روح كل القوى الآتية ومنشأ تلك المدمرات: جهل الأمة وعدم اضطلاعها بوظائف السلطنة وحقوق الملة. ومن الواضح البديهي كما أن العلم ينبوع كل الفيوضات والسعادات، كذلك الجهل منبع كل الشرور الفياضة ومنشأها الحقيقي وهو الموصل الوحيد إلى أسفل الدركات.. الثانية: هي شعبة الاستبداد الديني، ويعتبر علاج هذه القوة بعد علاج سابقتها من أعسر الأمور وأصعبها، وذلك لشدة رسوخها بالأذهان والقلوب أولا، ولاعتبارها جزءا من أجزاء الدين ثانيا.. إنها عبارة عن الإرادات التحكمية لا غير. وقد أظهرها المنسلكون في زي الرياسة الروحانية بعنوان الدينية. وخدعوا الشعب الجهول لفرط جهالته وعدم خبرته بمقتضيات دينه بوجوب طاعتهم». (المشروطة والمستبدة ص: 387 ـ 389).

أين يقع أصل الاستبداد الديني؟ لقد ارتكب نائيني خطأ واضحا. إنه يعتقد أن أصل الاستبداد الديني نشأ من عهد معاوية.

من الواضح أنه في إيران القديمة، يمكننا أن نصل إلى جذور الاستبداد الديني. ومن المذهل أن النظرية هاجرت من مصر إلى إيران، ومن إيران إلى اليونان وروما، وفي النهاية، انتقلت إلى الخلافة الإسلامية في عصر الأمويين.

في إيران القديمة، كان الملك يسمى نائبا عن الرب. ومن المثير للاهتمام، أنه في صلاة يوم الجمعة، بعد الانتخابات، في 26 يونيو (حزيران)، قال إمام صلاة الجمعة آية الله أحمد خاتمي، إن خطبة آية الله خامنئي كانت خطابا من الله بالفعل!

وتنتمي تلك الفكرة إلى فلسفة إيران القديمة في السياسة. وأعتقد أن الدكتور محمد عابد الجابري أوضح تلك القضية أفضل من أي شخص آخر في كتابه الكلاسيكي «نقد العقل العربي: العقل الأخلاقي العربي» (الجزء الرابع). وفي القسم الثاني في الفصل التاسع كتب: «القيم الكسروية تغزو الساحة: الدين طاعة الرجل! كل شيء يدور حول كسرى وكسرى حاضر في كل شيء يحاكي حضوره في وجدان الفرس حضور الله! والحق أن الدين والملك كانا توأمين فعلا، ليس في النظام السياسي الاجتماعي للدولة الساسانية وحسب، بل في قلوب رعاياها أيضا.. ومن هنا كانت طاعة كسرى وطاعة الله من الأمور البديهية التي لا تكون موضوع نقاش. ومن هنا كان الخروج عن طاعة كسرى يبدأ بالخروج عن الدين السائد. فالثورة على حكم كسرى تبدأ هنا بالثورة في الدين». «نقد العقل العربي مجلد 4 ص:250».

ويبدو لي أن تلك الفكرة لها خلفية تاريخية عميقة الجذور. وأعني قبل العصر الساساني، وقبل أيضا العصر الأخميني، يمكننا أن نجد بعض طرق الحكم المشابهة لمصر القديمة. عندما ذهب موسى إلى قصر فرعون ليتحدث إلى فرعون وينقذ بني إسرائيل، قال فرعون، رمسيس الثاني، لمؤيديه: «ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد» (سورة غافر 26).

ويقول الإمام فخر الرازي في «التفسير الكبير»: «المقصود من هذا الكلام بيان السبب الموجب لقتله، وهو أن وجوده يوجب إما فساد الدين أو فساد الدنيا، أما فساد الدين فلأن القوم اعتقدوا أن الدين الصحيح هو الذي كانوا عليه، فلما كان موسى ساعيا في إفساده كان في اعتقادهم أنه ساع في إفساد الدين الحق. وأما فساد الدنيا فهو أنه لا بد وأن يجتمع عليه قوم ويصير ذلك سببا لوقوع الخصومات وإثارة الفتن، ولما كان حب الناس لأديانهم فوق حبهم لأموالهم، لا جرم بدأ فرعون بذكر الدين فقال: «إِنّى أَخَافُ أَن يُبَدّلَ دِينَكُـمْ» ثم أتبعه بذكر فساد الدنيا فقال: «أَوْ أَن يُظْهِرَ فِى الأَرْضِ الْفَسَادَ».

وكان فرعون يقول لقومه صراحة إنه هو الرب. وكان ذلك حجر الأساس في الاستبداد الديني. ويعتقد بعض المفكرين أن نظرية أفلاطون عن الفيلسوف الملك أيضا لها أصل فارسي.

وربما تكون القاعدة الذهبية لـ«اعط وخذ»، وهي المهمة للغاية في عالم الأعمال، أيضا منطبقة على عالم الأفكار. وكان جميع الملوك الإيرانيين والفراعنة في مصر والقياصرة في روما واليونان يعتقدون أن الدين هو أفضل مبرر للدول المستبدة.

ويمكننا أن نجد العديد من الحركات في تاريخ البشر كان المطلب الأساسي فيها هو الحرية والعدالة، ولكن معظمها كانت ضد الدين. لذا، المشكلة التي نواجهها هي: لماذا كانت تلك الحركات ضد الأديان؟ الإجابة واضحة: لأن الأديان في العالم تؤيد الأنظمة الطاغية. أو على الأقل، كانت الأديان أفضل مبرر مناسب لمساعدة الأنظمة القاسية والطاغية وحمايتها. وكانت الماركسية إحدى تلك الحركات، التي كانت تعتقد أن الدين أفيون الشعوب.

وأعتقد أن ولاية الفقيه هي الفصل الأخير في الاستبداد الديني. وبناء على المعايير الإسلامية، يجب أن نقارن سلوك القائد أو الرئيس، وفقا للقيم الإسلامية. ولكن على النقيض، يقال إن الوالي الفقيه ذاته هو المعيار.

وعلى سبيل المثال، يعتقد عدد كبير للغاية من الإيرانيين، ومن بينهم مير حسين موسوي ومهدي كروبي، أن نتيجة الانتخابات مزورة. لقد كان ذلك من أكبر عمليات الخداع في تاريخ إيران. ولكن في المقابل، يعتقد آية الله خامنئي، المرشد الأعلى الإيراني، أن الانتخابات كانت احتفالا عظيما.

كيف يمكننا أن نقارن بين تلك الأفكار المختلفة؟ في يوم الثلاثاء، 14 يوليو (تموز)، ذهب مير حسين موسوي، ومعه زوجته الدكتورة رهنورد، إلى منزل عائلة سُهراب. وقد قتل سُهراب في إحدى المظاهرات في طهران. وبعد 25 يوما، علمت أسرته أن سُهراب قتل، أصيب بطلق ناري في قلبه. فكيف يقبل مير حسين موسوي ومؤيدوه وعائلة سُهراب نصيحة خامنئي؟ كيف يمكنهم أن يظلوا صامتين؟

واستنادا إلى ألفاظ قرآنية، تقوم الولاية على المحبة والمودة، وليس القسر والخوف.

ومنذ أعوام، كنت عضوا في البرلمان الإيراني، وقمنا بجولة إلى هافانا للمشاركة في جلسة برلمانية دولية. وعندما عدنا، قابلنا آية الله الخميني في غرفته الصغيرة للغاية. وكنا جميعا، خاتمي وولاياتي وناطق نوري وإمامي كاشاني نجلس على الأرض. وبدأ الإمام الخميني في وعظنا. وقال، في محاضراته عن دروس الأخلاق في قم، عندما كان يتحدث عن النار والعقاب أدرك أن عيون الجمهور تمتلئ خوفا. ولكن عندما كان يتحدث عن الجنة ورحمة الله، كانت عيونهم تمتلئ حبا ودموعا.

وبالنسبة لي، كثوري مسلم شاب، بدا أفضل طريق إلى الله هو المحبة. وبمعنى آخر، كنت أعتقد أن ولاية الفقيه تقوم على المحبة وليس التهديد والقسر. وأعتقد أننا يجب أن نستنشق عبقا إلهيا في ولاية الفقيه وليس سموم الجحيم.

وها هي آية مهمة في القرآن الكريم، وهي تترجم دور الحب بين الأبناء والمسلمين والله. ومن المستحيل الطاعة من دون حب، ولا يوجد مكان للكراهية والاستبداد. وفي التصوف الإسلامي، تعد هذه الآية حجر الأساس لكل طوائفه وفروعه.

قال تعالى: «قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله». (آل عمران 31).

وتوجد علاقة وثيقة بين الحب والاتباع. وقد قيل: تعرف الأشياء بأضدادها.

وفي القرآن يمكننا أيضا أن نرى نوعا آخر من الاتباع والطاعة في نموذج الحكم على طريقة فرعون: «فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين». (الزخرف 54).

وقد ترجم يوسف علي في ترجمته لمعاني القرآن الكريم كلمة «استخفاف» أي «جعلهم مغفلين». ومن الواضح أن الاستبداد دائما يستخدم الجهل ليكون قاعدته الأساسية. وقد قال مهدي برزكان، أول رئيس وزراء بعد الثورة الإيرانية، ذات مرة، إن ثورتنا كانت رد فعل للجهل ضد نظام مستبد.

ولذلك السبب، قال أحد شعراء إيران، بدكوبيهي:

«في البداية، استهدفنا الظلم،

ولكن لم تخرج سهامنا من قوس المعرفة.

أتمنى، لو كنا في البداية قد استهدفنا الجهل».