التداوي بوخز الإبر التركو خليجية

TT

قراءة ما يجري ورسم سياسات المستقبل بنظارات محلية كانت الغاية الأولى للقاء اسطنبول التركي ـ الخليجي الأخير. وهذا ما عكسته التصريحات وردود الفعل الصادرة عن القيادات في الجانبين التي خرجت مرحبة ومتفائلة بنتائج الاجتماعات، مؤكدة أنها ستكون قد الحمل وبزيادة أمام رزمة جدول الأعمال الشامل والموسع والذي تضمن عشرات المواضيع السياسية والأمنية والمشاريع الاقتصادية والإنمائية المشتركة.

ينبغي الإقرار مرة أخرى أن منطقة الخليج ظلت بالنسبة إلى الأتراك وحتى الأمس القريب خزان النفط العالمي ومصدر الأموال الواجب التنبه لها والعمل على الاستفادة منها لا أكثر، فالحكومات التركية المتعاقبة في السلطة لم تتنبه إلا مؤخرا إلى موقع وأهمية الخليج كمركز عبور استراتيجي يحمل تركيا إلى مناطق وقارات ظلت مجهولة بالنسبة لها أولا ويساهم في تركيز سياستها الخارجية المتعددة الجوانب التي تبنتها منذ مطلع الثلاثينات.

وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة قبل 7 سنوات كحركة إسلامية الجذور وبطروحات إقليمية مغايرة للسياسات التركية التقليدية حيال منطقة الشرق الأوسط والخليج حمل الكثير من التفاؤل والاستعداد لتلقي الرسائل والتعامل معها بإيجابية وترحيب.

السنوات الخمس الأخيرة كانت شاهدا على حجم الاندفاع في توطيد هذه العلاقات وتأطيرها ضمن برامج تعاون مدروسة متعددة الجوانب وبعيدة المدى ويكفي هنا إلقاء نظرة خاطفة على حجم الأرقام وعدد الزيارات المتبادلة على أكثر من مستوى لنكتشف أهمية ما يجري ويدور كطرح يكون نواة تكتل إقليمي جديد يتجاوز الشكليات والعموميات.

أكثر من مشروع تمدد وانتشار إنمائي وتجاري وسياسي يحمي مصالح الجانبين المشتركة وجميع الراغبين بالالتحاق ضمن أسس ومبادئ تحمل السلام والاستقرار والازدهار إلى هذه المناطق. ولنقلها بصراحة ما يجري يعني بالدرجة الأولى إيران قبل غيرها، فهي قد لا تكون المستهدفة من وراء هذا التقارب التركي الخليجي، لكنه يعنيها إذا ما كانت تريد أن تقول وتبرهن عن حق أن سلبيات الأحداث وحجم المآسي ورهان البعض على استغلال أزمات المنطقة لرفع قيمة أسهمه، هو على حساب الجيران والإخوة مقولات لا تعنيها لا من قريب ولا من بعيد.

الحوار التركي ـ الخليجي الأخير ليس مجرد ترجمة بسيطة لحماية المصالح، بل هو مشروع تداوٍ لا بد منه عبر الوخز بالإبر التركو خليجية، طالما أن البعض يراهن على تفوقه العسكري وتمدده الأمني وانتشاره المذهبي متجاهلا مصالح الآخرين وحقوقهم.

لقاء اسطنبول الأخير على مستوى الوزراء ليس الحوار الاستراتيجي الأول بين أنقرة ودول الخليج، بل هو تتمة لاجتماعات بدأت قبل 5 أعوام في إسطنبول أيضا عبر لقاء موسع شاركت فيه 4 دول خليجية وقتها أعقبها ملتقى البحرين عام 2005 ثم حوار جدة العام المنصرم الذي توج بتوقيع مذكرة تفاهم وتعاون ترسخ خطط التعاون العملية لمشاريع إنمائية مشتركة، يتقدمها أنابيب الغاز والنفط والسكك الحديدية والتعاون الأكاديمي وتبادل الخبرات العلمية والأكاديمية.

الأولوية ستعطى كما علمنا لاتفاقية السوق المشتركة وعقود التجارة الحرة، ثم لخطوط الربط والنقل بين المنطقتين عبر مشاريع تعاون تتجاوز قيمتها مليارات الدولارات. 20 بندا تضمنها إعلان إسطنبول تعيد كلها التعريف بمصطلح الاستراتيجية في العلاقات بين الدول تحت شعار السعي لتحقيق مستقبل أفضل لأبنائنا والأجيال المقبلة، ونحن نعرف أن تحقيق ذلك لن يكون سهلا وهو حتما سيتعرض لخضات وصعود وهبوط سببها الأول هو البيروقراطية والخطوات والتدابير القانونية الواجب اتخاذها لكن فرصه في النجاح كبيرة جدا طالما أن الكثيرين يراهنون عليه كحاجة إقليمية لا بد من إنجازها لتكون مصدر حل العديد من الأزمات والمشاكل الإقليمية.

يكفي قراءة البيان الختامي للقاء اسطنبول وما تضمنه من توصيات واقتراحات وحمله من دعوات لنعرف أن تركيا جادة في المضي حتى النهاية في سياستها هذه ولنصغِ مرة أخرى إلى ما ردده وزير الخارجية التركي الجديد داود أوغلو وكان سلفه علي باباجان قاله قبل عام «بادرات السلم والتقارب والانفتاح من هذا النوع منبعها ذاتي ومحلي وهدفها هو توفير الأمن والاستقرار في مناطقنا فاستقرار منطقة الخليج وأمنها مسألة تعني أنقرة عن قرب وهي امتداد لسياساتها ومصالحها الإقليمية».

لا تركيا ولا دول الخليج تعد لمعاداة إيران واستهدافها من خلال خطوات التقارب والتعاون هذا.

هذا وحده هو الذي سيعزل نفسه من يتصور أنه قادر على التفرد في حملاته والابتعاد عن القرارات والسياسات الجامعة الموحدة.

اتفاقيات مشروع نوبوكو للطاقة الأخيرة وتوصيات قمة شرم الشيخ ضمن مجموعة دول عدم الانحياز وتصريحات قيادات البيت الأبيض الأخيرة حول السلام في الشرق الأوسط عوامل بين جملة أخرى تفسر ضرورة مثل هذا التقارب التركي الخليجي والحاجة للإسراع في ترجمة قراراته فهو الخيار البديل الأفضل في مثل هذه الظروف للرد على مواقف وشعارات التشدد والتطرف والتعنت المنتشرة في المنطقة.