هل ذهب سحر أوباما؟!

TT

قالت استطلاعات الرأي العام الأمريكية إن مستوى التأييد للرئيس الأمريكي باراك أوباما قد هبط من 76% من الأمريكيين في شهر فبراير الماضي إلى 57% في شهر يوليو أي بعد ستة شهور من توليه السلطة في البيت الأبيض. وربما كان نصف عام ليس كثيرا في تاريخ العالم، وحتى في تاريخ الرؤساء الأمريكيين، ولكن الإعلام الأمريكي المولع بالقياسات والاستطلاعات وجد أن النسبة التي هبط لها صاحبنا لا تختلف كثيرا عن تلك النسبة التي حصل عليها سابقه جورج بوش حيث كانت نسبة التأييد له بعد نصف عام من السلطة 56% أي أقل 1% فقط مما وصل إليه الرئيس الحالي وهو الذي شهد له قبل رحيله عن واشنطن بأنه كان أقل الرؤساء شعبية في التاريخ الحديث للولايات المتحدة الأمريكية.

فما الذي جرى إذن لشعبية رئيس كان الظن غالبا بأنه سوف يصبح من أكثر الرؤساء الأمريكيين شعبية، وأكثرهم جاذبية وسحرا، وباختصار كاريزمية، لم تقتصر على الأمريكيين بل امتدت إلى بقية شعوب الأرض حتى كان هناك من اعتقد أنه لو كان هناك للأرض رئيس لكان باراك أوباما؟ وبشكل من الأشكال فإن ساكن البيت الأبيض، وزوجته وحتى ابنتيه، صاروا نوعا من العلامات المميزة لما هو معروف «بالأمريكي الطيب» الذي كان مضطهدا حتى وقت قريب ثم وصل بعد طريق ونضال طويل إلى قمة السلطة في أقوى دول العالم. وحينما قيل إن أوروبا وآسيا وإفريقيا أيضا بات فيها ما هو معروف «بأوباما مانيا»، أو الولع والشغف برئيس الولايات المتحدة، فإنه لم يكن في الأمر مبالغة كبيرة. وحتى في العالم الإسلامي حيث تنظر الشعوب والدول بكثير من التشكك لكل ما هو أمريكي، فإن الرجل لم يكن جذابا فقط، بل كان مبشرا بسلوك أمريكي مختلف عما سار عليه الرؤساء الأمريكيين من قبل خاصة في صراع الشرق الأوسط. ولوهلة بدا أن أوباما نفسه بات يعرف أنه في خطاباته المختلفة لا يتحدث إلى الأمريكيين وحدهم، بل إنه يتحدث أيضا إلى بقية العالم، ومن ينسى ذلك الخطاب التاريخي الذي ألقاه في جامعة القاهرة والذي كان موجها في الأصل إلى العالم الإسلامي، ولكنه كان موجها أيضا لبقية العالم، بما فيه ـ بالمناسبة ـ الشعب الأمريكي أيضا!

ماذا جرى إذن حتى تهبط شعبية «الرئيس» إلى هذا الحد، وبهذه السرعة في وقت قصير، وهل بات الشعب الأمريكي ملولا إلى هذا الحد بحيث يتراجع تأييده لقائده قبل أن يجف الحبر الذي جرت به الانتخابات الأمريكية، أو حتى قبل أن تنتهي أصداء احتفالات أوباما عند توليه للمنصب؟ التفسير المباشر لهذه الظاهرة هو تأثيرات الأزمة الاقتصادية على الشعب الأمريكي حيث ارتفعت معدلات البطالة مرة أخرى لكي تصل إلى 9.5% وهي نسبة لم يعد يعرفها الأمريكيون منذ وقت طويل حيث كانت آخر مرة توجد فيها هذه النسبة في عام 1983 حينما عاشوا في فترة كساد وأزمة اقتصادية امتدت منذ منتصف السبعينيات وامتدت نحو عقد كامل حملت فيه الانتخابات رونالد ريجان إلى السلطة منذ عام 1982 واستمر فيها حتى نهاية العقد. وكانت أحلك لحظات الأزمة الاقتصادية قد جرت خلال فترة حكم الرئيس جيمي كارتر (1977ـ1981)، رغم أن جذورها رجعت إلى ما قبل ذلك إبان حكم الرئيسين نيكسون وفورد. فهل يتكرر الأمر مرة أخرى حينما تكون «المصيبة» بنت عصر جمهوري ـ حكم جورج بوش ـ بينما يتحمل آثارها ونتائجها رئيس ديمقراطي حدث أنه باراك أوباما؟

الذين يرجعون الأمر إلى الأزمة الاقتصادية يعطون لسياسات أوباما لوما غير قليل، وعلى أي الأحوال فلم يكن متوقعا أن يصمت الجمهوريون طويلا في مواجهة سحر الرئيس الجديد، ولذا فإن محط سهامهم أصبحت سياسات «التحفيز» التي اتبعها واقتربت من 800 مليار دولار مرت شهور على اعتمادهم من جانب الكونجرس ولكن التأثير ظل محدودا. ولم يفلح كثيرا ما قاله أوباما من أن الحزمة الاقتصادية التي اعتمدها لم تكن مصممة بحيث تحل المشكلة خلال ستة شهور وإنما سوف تأخذ عامين على الأقل لكي تغير الأوضاع البائسة القائمة. فالشعوب، والشعب الأمريكي خاصة، لا تعرف الانتظار طويلا، وفي العصر الحالي فإن مدى الصبر الشعبي لم يعد يتجاوز الشهور كثيرا، بعدها ينتظر الجميع النتائج.

الجائز أيضا أن الأمر لم يعد يقتصر على الأزمة الاقتصادية، فما جرى هو أن باراك أوباما طرق كل أبواب المشكلات العالمية، ولم يترك ساحة دولية إلا سار فيها، وعندما وصلت أقدامه إلى إفريقيا كان يضع أصابعه على كل المشكلات والمعضلات، وسواء كان في أوروبا أو الشرق الأوسط أو آسيا أو أمريكا الجنوبية فإنه كان يتحرك كما لو كان بيده حل لكل معضلة وأزمة وصراع طويل. والمشهد هكذا كان مبشرا بأكثر مما تتيحه قدرات الرئيس الأمريكي، وحتى الولايات المتحدة التي هي قوة عظمى وحيدة في العالم فإن لديها طاقة محدودة على مباشرة كل أحوال الدنيا. وما جرى عند الاقتراب من «المسألة الروسية» عن طريق التوصل إلى اتفاقية جديدة لتخفيض الأسلحة النووية بين واشنطن وموسكو، لم يكن فيه معضلة كبرى لأن أساس هذه الاتفاقية كان موجودا منذ الثمانينيات، ولكن المعضلة جاءت عندما طالب الروس بربط الاتفاقية بالتوصل إلى اتفاق خاص بانتشار الدرع الصاروخية التي تقيمها أمريكا بالقرب من الحدود الروسية، بل وفي مناطق تعتبر من مناطق النفوذ التقليدية بالنسبة لموسكو. وما نشاهده الآن في أمريكا والعالم لا يزيد كثيرا عن حالة الإحباط التي تثيرها توقعات لا نهاية لها تفجرت بين جموع وجماعات ثم مع مرور الزمن لم يبدُ ضوء في نهاية النفق، وفي بعض الأحيان لم يظهر نفق على الإطلاق.

الصراع العربي الإسرائيلي تعرض لمثل هذه الزلزلة بين السخن والبارد، والتفاؤل والتشاؤم، حيث ارتفعت التوقعات تجاه الحل والتسوية إلى أقصى حد بعد أن نزل أوباما من السماء مثل رجال المظلات الأشداء وهو يجري باتجاه التسوية حينما عين جورج ميتشل مفوضا دائما لتسوية حرب استمرت على مدى المائة عام الماضية، وحينما تشدد في قضية المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية والقدس والتي استعر البناء فيها قبل وبعد وصول أوباما إلى البيت الأبيض، في سابقة ليس لها تكرارات كثيرة في التاريخ الأمريكي. ولكن الصيف جاء وليس فيه إلا حرارة الجو، أما التسوية، فضلا عن التسوية العادلة، فما زالت بعيدة المنال، وما بقي هو أن بعضا من إدارة باراك أوباما بدأ يلقي اللوم على الإسرائيليين تارة لأنهم لا يتجاوبون مع الطلبات الأمريكية، وتارة أخرى على العرب الذين ليس لديهم «الشجاعة» لاتخاذ قرارات صعبة. وبالنسبة لجماعة الحزب الجمهوري فإن التعليق الوحيد في مواجهة الديمقراطيين هو مرحبا إلى الشرق الأوسط أيها السادة، ألم نقل لكم إن الشرق الأوسط هو قضية غير قابلة للحل؟

وبالوسع البحث في قضايا كثيرة، بعضها داخل الولايات المتحدة، وبعضها الآخر خارجها، وسوف تكون النتيجة هي أن أوباما طرق الأبواب ولكنه لم يفلح، على الأقل بعد، في فتحها، ولن يفيد كثيرا ما بات يذكره بخصوص الأزمة الاقتصادية أن هناك تقدما قد حدث بالفعل، وحدث الاستقرار في النظام البنكي والمصرفي، وعادت البنوك مرة أخرى لمباشرة الإقراض. فمثل ذلك لا يفيد أبدا هؤلاء الذين حفيت أقدامهم بحثا عن العمل في بيئة فقيرة من الوظائف، بل إن المرجح هو أن هؤلاء سوف يكونون بيئة معرضة لمزيد من السخط والغضب.

ما نقوله عن «سحر أوباما» ليس بعيدا عن سمع وأبصار جماعة الرئيس الأمريكي، فإذا كانت لدى الرجل ميزة واحدة فهي أن لديه القدرة لاستيعاب الحقائق كما هي على الأرض. ولكن للرجل ميزات كثيرة، منها أن لديه القدرة على أن يبقى طريقه ثابتا وموجها نحو الهدف والمقصد، وكان ذلك هو ما جعله يكسب الرهان على البيت الأبيض، فهل يكسب رهانات أخرى من بينها استعادة سحر بدأ يخفت؟!