دفاع عن المدرسة العمومية

TT

وردت في ثنايا نتائج الباكالوريا هذه السنة في المغرب معطيات تدل على ما يقدمه التعليم العمومي من جهود يتنكر لها القائمون على تسيير الشأن العام حينما يصرفون أبناءهم عن المدرسة العمومية ويوجهونهم نحو مدارس البعثة الفرنسية. وهذا التصرف من قبلهم ينطوي على جهل بحقائق الواقع، وعلى تعلق مرضي بفكرة خاطئة تقوم على أساس تفوق مدارس البعثة الفرنسية.

ومن شأن هذه النتائج أن تضع على المجتمع والدولة ملف التعليم من جديد، بعد أن تأتى في بحر السنة الجارية الالتفات باهتمام إلى مضمون هذا الملف الخطير من خلال تقرير للمجلس الأعلى للتعليم، وبرنامج استعجالي لتدارك الإصلاح الجامعي، وتقرير عن وضع البحث العلمي في الجامعة المغربية. وقد انصرفت الخواطر عن الموضوع بفعل الانشغال بالانتخابات المحلية، وخصوصا بذيولها الطريفة الحافلة بتفاصيل لا تنسى.

إن المدرسة العمومية المغربية هي المزود الرئيسي للدولة بما هي في حاجة إليه على مر السنين من الكفاءات التي تقوم بتسيير المرافق، وتحريك عجلة التنمية. وكما لا يخفى تدين الدولة للمدرسة العمومية طيلة نصف قرن، في مختلف المستويات، بكل أطر التربية، وبكل من في البلاد من مسيرين إداريين ومهندسين وأطباء وخبراء في كل الميادين، التقليدية المعهودة والمستجدة التي جلبها تطور التكنولوجيا.

ومن المعطيات التي أبرزتها نتائج الباكالوريا أن هناك اتجاها يتكرس يرجح كفة العلوم والرياضيات (44,82%) على حساب المواد الأدبية (26,34 %). كما أن نسبة الإناث تزداد أهمية وخاصة من زاوية تسجيل التفوق.

وقد أبرز تحقيق أنجزه الزميل سعد بنمصور في أسبوعية «لا في إيكونوميك» أن 26 من الناجحين حصلوا على درجة 18 على 20. وأن 409 حصلوا على 17 على 20. وكانت أعلى نقطة حصل عليها ناجح في هذا العام هي 18,67. ومن بين الفئة الأولى من المتفوقين لا يتعدى عدد الذكور خمسة، مما يبين أن جدية التحصيل عند البنات هي أعلى مما عند زملائهن.

وتضمن التحقيق المشار إليه نبذة عن ثمانية من هؤلاء المتفوقين، ظهرت من بينهم خمس صبيات غطين رؤوسهن بمنديل، وواحدة بلا منديل. وينحدر هؤلاء المتفوقون من مدينة تازة (حصلت ناجحة من هناك على 18,16) ومن مدينة الداخلة (حيث حصلت ناجحة من وادي الذهب على 18,18) ومن مدينة الخميسات (حصلت ناجحة من هناك على 18,07) وهذه المدن كلها لا توجد فيها مدارس لبعثة أجنبية. أي أن هؤلاء المتفوقين والمتفوقات هم من أبناء المدرسة العمومية.

وهذا هو الشأن دائما. إن المتفوقين في المباريات التي تنظم للالتحاق بكلية الطب مثلا، والذين يحتلون الرتب الأولى في مباريات الالتحاق بالمدارس العليا التقنية هم من أبناء المدرسة العمومية، ولا يزاحمهم في المقدمة أبناء المدارس الخاصة ولا مدارس البعثة. وأغلب الأساتذة المبرزين في الكليات والمدارس العليا في طول البلاد وعرضها، وبأغلبية كبيرة جدا، هم كذلك منحدرون من المدرسة العمومية. ومن بين هؤلاء مهندسة إعلاميات مرموقة، درست في ليسي الحسن الثاني بالبيضاء، ثم ليسي مولاي يوسف بالرباط، هي الأميرة للا سلمى قرينة الملك محمد السادس، وهي بنت المدرسة العمومية، وبنت الجامعة المغربية.

كما أن عددا كبيرا من هؤلاء المتفوقين ينحدر من مدن بل قرى تعتبر في عداد المناطق المهمشة. وفي المدة الأخيرة جرى الكلام عن أستاذ في الفيزياء يعتبر واحدا من بين 100 شخصية علمية ذات كفاءة مشهود بها عالميا، حسب تصنيف لجامعة كامبريدج هو الأستاذ بنحمو بجامعة الدار البيضاء، وهو من أبناء وطاط الحاج، ودرس في كرسيف وتازة، وهي كلها مواقع لا توجد فيها مدرسة تابعة لبعثة أجنبية.

وفي السنة الماضية نجح في مباراة الالتحاق بالبوليتكنيك في فرنسا 11 مغربيا تسعة منهم هم من أبناء مدرسة عمومية في الرباط. وفي كل المباريات الجدية في المغرب وفرنسا يأتي أبناء ديكارت وأخواتها، دائما بعد أبناء المدرسة العمومية المغربية.

لكن هناك تهافتا مثيرا لشخصيات نافذة في المغرب من أجل إلحاق ذويهم بمدارس البعثة الفرنسية، وكأن الواحد منهم يتصور أن عدم النجاح في ذلك هو بمثابة حكم على أبنائهم بالحرمان من فرص الحياة.

وقد نشرت في فبراير (شباط) الماضي أخبارا عن ازدحام كبير على السفارة الفرنسية بالرباط بمناسبة فتح باب التسجيل في مدارس البعثة الفرنسية، بسبب رغبة شخصيات مدنية وعسكرية سامية في إلحاق أبنائهم أو أبناء أقاربهم بتلك المدارس، مستعملين وساطات قوية لتحقيق تلك الرغبة، مما يعبر عن وجود لهفة لا تقاوم للفوز بمقعد في ديكارت وأخواتها.

وتروج على نطاق واسع فكرة خاطئة مفادها أن مدارس البعثة الفرنسية هي وحدها التي تضمن المستقبل الآمن لأبناء الأعيان. وقد تضمن كتاب أصدره أخيرا الزميل علي عمار المسؤول السابق في أسبوعية «لو جورنال» إشارة في هذا المضمار حين قال إن «المغرب الجديد» آهل بأبناء ليسي ديكارت بالرباط. وهو يعني أن النخبة المسيرة للبلاد إداريا واقتصاديا هم من قدماء تلاميذ الثانوية المذكورة. وإذا كان هناك شيء من هذا فليس بسبب تفوق علمي بل لأسباب أخرى معقدة ليس هذا مجال تفصيل القول فيها.

ويتضمن الكتاب المذكور عرضا دقيقا لتجربة مهمة عاشها المؤلف بيقظة، وهي المشاركة في تأسيس أسبوعية «لو جورنال» التي ساهمت بكيفية خلاقة وشجاعة في إرساء فعل صحافي جديد بالمغرب. وهي تجربة فذة من بين التجارب التي أفرزت ظاهرة الصحافة المستقلة في المغرب الراهن. والكتاب من هذا الجانب له أهميته، ولكنه حين يتعرض للجالية الناطقة بالفرنسية في المغرب، كما يسمي الشاعر ع.ر.الجواهري غلاة الفرانكوفونيين المغاربة، يتعرض لهم عمار وكأنهم هم الذين يصنعون الصحو والمطر في هذه البقعة من العالم. ومن البديهي أن الأمر ليس كذلك. فإن إشعاع هؤلاء حتى ولو أمسكوا بمقاليد الشأن العام الاقتصادي، لا يتعدى محور الدار البيضاء الرباط. والدليل على ذلك هو أن جمهور القنوات التلفزية الفرنسية بالمغرب محصور في ما لا يزيد على 0,5 في المائة، بينما تحظى الفضائيات العربية بحصة الأسد في المشهد الإعلامي المغربي (ما بين 25 و35 %). وأما على صعيد الصحافة المكتوبة فإن الجمهور يقبل بنسبة 79 % على العربية وبنسبة 21% على الفرنسية.

إن هناك ضرورة لإعطاء الاعتبار للمدرسة العمومية باعتبارها المصنع الأساسي لخلق المواطن المؤهل لخدمة نفسه وبلده. ويمكن أن يتأتى ذلك بمبادرة جمعوية للدفاع عن المدرسة الوطنية المغربية، حتى تبقى كما هي الحالة الآن القاطرة التي تجر عربات العملية التعليمية بأسرها.

ومن الإنصاف أن يسلط الضوء الكافي على المجهود الذي يتم بذله في حظيرة المدرسة العمومية، ومواكبة العملية التعليمية بالدراسات والأبحاث التي تساعد المتدخلين في القطاع من مربين وإداريين وسلطات عمومية، على الحفاظ على درجة عالية من التعبئة لخدمة الأهداف التي تتصدى لها المدرسة العمومية.

إني أب لثلاثة من ذوي الكفاءات أنتجتهم المدرسة العمومية المغربية. وكلهم وصلوا إلى نيل أعلى الشهادات الجامعية وهم يحذقون خمس لغات. وهم مثل آلاف من الشباب المغاربة الذين منحتهم المدرسة العمومية الزاد الضروري الذي مكنهم من ارتياد آفاق المعرفة والتأهيل