الزعماء لا يموتون.. يقتلون فقط

TT

أدلر يونغ، عالم نفس من زملاء فرويد، ومن أشهر المتمردين عليه، أهم ما قاله هو أن هناك لا وعيا واحدا يجمع بين البشر جميعا، أي أن هناك عقلا واحدا تم توزيعه على البشر جميعا، وكل ما حدث لهم من قبل في تاريخهم الطويل مسجل عليه كل أفكارهم وممارساتهم القديمة. عقل الإنسان الفرد إذن أشبه بدفتر أحوال في قسم الشرطة تسجل فيه حوادث الحي كله، أو هو ألبوم صور احتفظ بكل ما حدث لك ولأجدادك أيضا. كل المقولات العقلية عند القبيلة البشرية الأولى التي احتلت حيزا كبيرا في وعيها، تم إبعادها على مهل بحكم التطور، لترقد في أعمق أعماق اللاوعي، غير أنها تظل على أهبة الاستعداد للقفز بقوة داخل الوعي نفسه في لحظات. ومن هذه المقولات أن الزعيم لا يموت، بل يغيب فقط، لكي يأتي ربما بعد آلاف السنين ليقيم العدل على الأرض. ربما كانت هذه المقولة هي الأصل في فكرة الزعيم الغائب، وربما كانت أيضا من حيل العقل الجمعي عند البشر لتحمل درجات التعاسة العالية. لاحظ أننا حتى الآن نستخدم كلمة الغياب في وصف الوفاة.

لذلك تجد الناس فور وفاة الزعيم المحبوب لا تفكر في أنه مات، نظرا لعجزها عن تصديق ذلك، بل إنه قد قتل. حدث ذلك تقريبا لكل الزعماء المحبوبين في مصر الذين ماتوا فجأة، وآخرهم جمال عبد الناصر، كما كان من الطبيعي أن يحدث للزعيم ياسر عرفات. ليس جديدا إذن ما أعلنه السيد فاروق قدومي الأسبوع الماضي، ومن المؤكد أن نسبة عالية من الجماهير العربية ستصدق ذلك. أنا أيضا أصدق أن المرحوم ياسر عرفات قد أعطاه هذه الوثيقة بالفعل كما أعطى نسخا منها لغيره، غير أنني لا أصدق ما جاء بها، الأكثر من ذلك أنني على يقين من أن السيد فاروق قدومي لا يصدق ذلك أيضا. كل من اشتغلوا بالعمل الثوري أو عايشوه أو كانوا قريبين منه يعرفون جيدا أن هذا النوع من الوثائق يطبخ في مطبخ الثورة الداخلي لكي يقدم وجبة ساخنة جاهزة لعدد محدود من البشر تمهيدا للقضاء على أعداء الثورة وهم عادة أعداء الزعيم. هذا يحدث فقط عندما يحدث تناقض بين الزعيم وبعض مساعديه، وذلك لإعداد الناس وتجهيز عقولهم لتقبل فكرة إبعادهم أو حتى القضاء عليهم. ليس سرا أن التناقض بين أبو عمار وأبو مازن قد وصل إلى حد العداء السافر في أيامه الأخيرة، إلى الدرجة التي حاولت فيها مجموعة من الأزلام الاعتداء عليه عند أبواب المجلس التشريعي.

السيد فاروق قدومي كان ولا يزال يعمل أمين سر فتح، والمفهوم من ذلك أن لديه أسرارا كثيرة بدأ بالفعل في كشفها، فهل نفهم من ذلك أنه سيكشف لنا عن الشخص الذي أعطى الأوامر بإطلاق النار على السيد نبيل عمرو وتدمير ساقيه وتركه بين الحياة والموت وإلى الموت أقرب؟ هل سيكشف لنا عن قتلة الدكتور عصام سرطاوي في الوقت الذي بدأ فيه السير في طريق السلام؟ هناك وقائع قتل كثيرة في تاريخ الصراع الثوري الفلسطيني، ولكني لا أعتقد أن وثيقته تشير إلى واحدة منها. لقد حرص السيد قدومي على أن يعلن بوضوح في تعليقه لقناة الجزيرة بعد القنبلة التي أطلقها، أنه لا يعترف بالسلطة الفلسطينية. هو إذن خصم لسلطة ونظام، خصم لشخص تجسدت فيه الآن بفعل الواقع آمال الأمة الفلسطينية، وما فعله كان بدافع الانتقام، الانتقام من سلطة انفردت بالسلطة ولم تترك له إلا ثروته من الأسرار. الرغبة في الانتقام وحدها هي التي جعلت أبا في لبنان يعطى السم لولديه بأعصاب هادئة لكي ينتقم من زوجته. الرغبة في الانتقام كفيلة بتعطيل كل حسابات العقل ومقولاته، وإسكات صوت الضمير حتى الخرس. الرجل بقنبلته ـ التي يعلم زيفها ـ وجه ضربة مميتة إلى السلطة الفلسطينية في وقت حرج للغاية. هو لم يفعل ذلك لحساب فريق منافس، أقصد حماس، ولم يفعل ذلك لحسابه هو الشخصي، فلا مكسب من أي نوع في هذه الحالة، لقد فعله بدافع الرغبة في الانتقام. كما أثبت أن ياسر عرفات حتى في غيابه ما زال قادرا على الانتقام من خصومه والفتك بهم. إن هذه الوثيقة عمل من أعمال الهواة من وجهة نظر أمنية، وتفتقر للدقة في التأليف. هي تقرير عن محضر اجتماع بين فلسطينيين وإسرائيليين وأمريكان في مكان تم تأمينه بالتأكيد، فكيف عرف كاتب التقرير بما تم فيه، ومن سرب وقائع الجلسة، الجانب الإسرائيلي أم الأمريكي أم الفلسطيني المتهم بالتواطؤ والتآمر بهدف قتل الزعيم؟

من عناصر التقرير التي تدل على سذاجة التأليف حكاية أن محمود عباس اقترح على بقية المتآمرين أن يقنع أو يوحي لياسر عرفات بالقضاء على خصومه القريبين منه، وكأن كاتب التقرير يقول: أيها السادة القريبون من الرئيس عرفات، إذا حدث وقام أحدهم بالفتك بكم، وهذا أمر وارد، فاعلموا أعزكم الله أن أبو مازن هو الذي أوحى بذلك.