شربة من زمزم

TT

في يوم من أيام الصبا تعطلت الدراجة التي كنت أقودها مع صديق لي في منطقة «أبحر» على مسافة من جدة، فتوقفنا على جانب الطريق ننشد العابرين إيصالنا، وإذا بسيارة تقل اثنين من الشباب، أحدهما الفنان السعودي الكبير غازي علي تتبرع بإيصالنا، وكان حينها غازي ملء الآفاق شهرة، فكل الدروب تصدح بأغانيه: «شربة من زمزم»، و«يا العشرة»، و«في ربوع المدينة»، فغبطت حظي الذي جمعني بهذا الفنان الذي تمنيت رؤيته، والتحدث إليه، فكان الطريق من «أبحر» إلى داخل المدينة مبهجا، وممتعا، وجميلا، ولم أزل أحتفظ بتفاصيل الحديث الذي دار بيننا رغم مرور الكثير من السنوات.

كتبت عنه ذات مرة مقالا بعنوان «فنان على كرسي ية»، توهم البعض أن غازي علي قد يجد فيه ما يغضبه، وكنت أراهن على أن غازي المثقف والفنان سينظر إلى الجزء الكبير الممتلئ من كوب الكلام، وكنت على يقين بأن ما كتبته عنه يصب في خانة الإعجاب به كفنان. في ذلك المقال ذكرت أن البعض يرى أن مشوار غازي علي الفني يمكن تقسيمه إلى مرحلتين؛ مرحلة ما قبل الدراسة، ومرحلة ما بعدها، وقلت إنني من الفريق الذي يميل إلى اعتبار مرحلة العفوية الإبداعية التي سبقت الدراسة أكثر تشكيلا لصورة الفنان في وجداننا من المرحلة التي تلتها، وأن جل ما نتذكره من أعمال غازي علي ينتمي للمرحلة الأولى التي نهل خلالها من التراث روائعه الخالدة، وكان جميلا أن أتلقى اتصالا من غازي علي في اليوم الذي نشر فيه المقال ممتنا ـ بأدبه الجم، وخلقه الرفيع ـ لما كتبت.

والدراسة الفنية تضيف إلى الموهوب الكثير، لكنها على الجانب الآخر يمكن أن تسلب الفنان بعض عفويته، وتلقائيته، وحريته الفنية، وهو ينشد الانسجام مع قواعد ونظريات الموسيقى التي درسها، بحيث تغلب عليه النزعة العقلية النقدية التحليلية، وتسيطر على مزاجه، وهذا ما حدث للفنان السعودي الكبير غازي علي، فدراسته في معهد الكونسرفتوار في القاهرة، وحصوله على البكالوريوس في التأليف الموسيقي، وكذلك انشغاله بدراسة «اليوجا» أسهمت في طغيان النزعة العقلية النقدية التحليلية، وانتقلت بالفنان إلى مرحلة أخرى مختلفة عن السابقة، فمؤلفاته الموسيقية الحديثة ـ في مرحلة ما بعد الدراسة ـ يمكن أن يصنفها المختصون في الموسيقى في مواقع متقدمة جدا من القيمة الفنية، إلا أن ثمة مسافة بين هذه المقطوعات، وبين وجدان المتلقي العادي الذي استقبل من قبل «في ربوع المدينة»، و«شربة من زمزم»، و«يا العشرة»، وشكلت جزءا من ذائقته الفنية.

وفي كل الأحوال يظل غازي علي أحد أعمدة الغناء والموسيقى في بلادنا، ولو أننا نمتلك معاهد أو مؤسسات لتكوين الموسيقيين لكان غازي علي الأجدر والأحق بقيادة هذه المؤسسات، ووضع مناهجها، وقواعدها، ومنطلقاتها.