الطبقة الجديدة

TT

كان ميلوفان دجيلاس نائب المارشال تيتو ورفيقه في المقاومة خلال الحرب. وعندما استتبت الأمور، حدث ما يحدث دائما في الدول الديكتاتورية: أمر الرئيس بسجن نائبه! وبعد عشر سنوات خرج في ضجة عالمية. وكتبتُ إليه رسالة ـ بخط اليد ـ من باريس أطلب مقابلة، وشفعت الطلب بأنني واحد من اثنين قاما بترجمة كتابه «محادثاتي مع ستالين» إلى العربية. وبكل تواضع الكبار جاءتني رسالة من دجيلاس ـ بخط يده ـ يرحب بي، ويخبرني أنه قام مرة بزيارة لبنان، وأن أكثر ما يذكره، هو أن المتوسط أكثر زرقة هناك منه في أوروبا، والأمر الثاني هو الانطباع الذي تركه في نفسه الزعيم الاشتراكي كمال جنبلاط.

عندما تفجرت أحداث إيران الأخيرة تذكرت كتابا آخر لميلوفان دجيلاس هو «الطبقة الجديدة». خلاصة الكتاب، الذي لعب دورا إعلاميا مهما في الحرب الباردة، أن الشيوعيين ألغوا الرأسماليين كطبقة لكنهم أقاموا «طبقة جديدة» من البيروقراطيين ومسؤولي الحزب والشرطة السرية وضباط الجيش، وهي طبقة أثرَت بسرعة واستبدت بسرعة وفسدت بسرعة.

لم تستطع الاشتراكية أن تكون بديلا للرأسمالية، يقول دجيلاس، لأن كلتيهما خضعت لطبقة لا تعمل إلا لمصالحها. لقد حل البيروقراطيون محل الرأسماليين. وفوق ذلك حكمت الشيوعية بالطغيان وبالغباء الاقتصادي. وما إن تحتل «الطبقة الجديدة» السلطة، في أي مكان، حتى تتحول من «تقدمية» إلى «محافظة» لا هم لها سوى الاحتفاظ بمواقعها ومكاسبها. وخلص إلى أن الشيوعية هي البيروقراطية في أقصى درجاتها، ولذلك حُكم عليها بالفشل. عندما عاد الإمام الخميني إلى طهران استبدل بمظاهر الشاه، واحتفالات «بيرسبوليس»، الجلوس على حصيرة، وتناول الطعام مع سائقه. وفرض هذا المناخ على من حوله بل على الجزء الأكبر من المجتمع الإيراني. وأثرت الدعوة الخمينية في الكثيرين من العرب، وخصوصا الجزء الفلسطيني منها. لكن بعد ذهابه نمت «الطبقة الجديدة» داخل النظام بكافة مؤسساته الحكومية والأمنية. وتحولت الثورة الإيرانية إلى ما تحولت إليه الثورات قبلا من أجنحة ومراكز نفوذ وتكتلات نفعية. ومثل كل الثورات أيضا تحولت إلى سلطة رجل واحد، أو رجل أعلى. وبرغم أن الرئيس تنتخبه الناس، فإن ثمة إرادة فوقه وفوقها.

تتوزع «الطبقة الجديدة»، المهام، والمنافع، والتواطؤ، ومراكز الرقابة، ومراكز الحراسة، لكي تتأكد من أن كل من هو خارج الولاء هو أيضا خارج الشراكة. لذلك كان 90% على الأقل من منسوبي الأحزاب الحاكمة، ينضوون فيها من أجل أن يضمنوا فرص الوظيفة والتعليم والترقي. وعندما تنفرط السلطة أو تتغير يكونون أول المتبرئين منها. ومن يحاول الاعتراض يلقَى مصير ميلوفان دجيلاس الذي خاض الحرب العالمية إلى جانب تيتو ولما انتهت ذهب واحد إلى الرئاسة والثاني إلى السجن.