العلاقة السورية ـ العراقية .. مصالح تجارية أم أهداف استراتيجية

TT

زيارة رئيس مجلس الوزراء السوري محمد مصطفى ميرو للعاصمة العراقية بغداد، منتصف هذا الشهر (اغسطس) والتصريحات التي صاحبتها بعناوين سياسية متقدمة عن الفترة السابقة لفتت انتباه عاصمتين معنيتين بالملفين العراقي والسوري هما (واشنطن وتل أبيب) اضافة الى عواصم عربية واقليمية تتأثر بهذه العلاقة مثل (الرياض والكويت وعمّان وبيروت وانقرة وطهران) بمستويات مختلفة، وكذلك الشارع السياسي لدى القوى السياسية في الحكم او المعارضة داخل كلا البلدين. وليس بالضرورة ان تظهر ردود فعل سياسية او اعلامية مباشرة لهذا الاهتمام، وما ظهر من تصريحات رسمية واعلامية في العاصمة (الكويتية) قد جاء لسببين ذاتيين مباشرين اولهما زيارة الرئيس السوري (بشار الأسد) للكويت غداً، والثاني هو هاجس القلق لدى بعض الاوساط البرلمانية والاعلامية من ان اي تطور في علاقات العراق التجارية ببعض العواصم العربية (كالقاهرة ودمشق وعمان) سيقود نحو الانفتاح السياسي، وبالتالي ارخاء طوق التشديد عن نظام الحكم القائم، ويساعد على تجديد انعاشه السياسي، وشعوره بصحة منهجه في ميدان العلاقات القومية في الوقت الذي ما زالت فيه مؤثرات تلك السياسة تحفر في ذاكرة الكويتيين المآسي التي خلفها اجتياح 2 اغسطس (آب) 90 وتعمل تلك المؤثرات على تغذية دوافع ثأرية لدى البعض، في حين تبلور لدى البعض الآخر وعي حريص على مستقبل الكويت كجار أبدي للعراق، ويدعو الى ازالة مؤثرات الماضي. واذا كان مثل هذا الهاجس له مبرراته الظرفية، فانه يؤكد اهمية حل الخلاف الكويتي ـ العراقي بالانتقال الى مناخ المكاشفة والاعتراف بالأخطاء لإزالة الآثار المدمرة المتواصلة للحصار على الشعب العراقي. كما ان الانطلاق في الحكم على اية حالة انفتاح عربي على العراق تساعد في التخفيف من محنة شعبه، من زاوية ذاتية ضيّقة، ومن منطلق التشبث بلغة الماضي وجروحه سيحرم الشعب العراقي من فرصة التعاضد القومي العربي، كما انها نظرة تفتقر الى البعد الاستراتيجي لما تواجهه الأمة من تحديات في تعرض الشعب الفلسطيني لحرب إبادة، وما تتعرض له سوريا من تهديدات الكيان الاسرائيلي في العدوان العسكري على اراضيها، اضافة لمخاطر تحالفه الاستراتيجي مع تركيا التي تضيق الخناق على كل من العراق وسوريا في حرب المياه، وهي اخطر انواع الحروب في القرن الواحد والعشرين.

ان انتقال العلاقة بين دمشق وبغداد من طابعها التجاري المقيد ببرنامج المنظمة الدولية (النفط مقابل الغذاء) هو جانب احيط بتفسير عمومي يقول بأن الانفتاح السوري على العراق استند الى الدافع النفعي التجاري، وعلى الرغم من وجود مثل هذا الدافع واهميته بالنسبة للاقتصاد السوري، لكنه لم يكن محركاً له، لأن هذا العامل كان موجوداً منذ عام 95 بداية تنفيذ (برنامج النفط مقابل الغذاء) ولم يتم التعامل به، كما ان المصالح التجارية لا تحرك العلاقات السياسية بين البلدان العربية مثلما هي عليه في العالم الخارجي، بل دائماً ما كانت الهواجس السياسية والأمنية، والأزمات وراء صعود او هبوط تلك العلاقات، ومثال ذلك ما اتخذته مصر من موقف مضاد للعراق عند اجتياحه للكويت في الثاني من اغسطس (آب) 90 وتخلت عن اكثر من خمسة مليارات دولار سنوياً كانت تصلها فقط من تحويلات العمالة المصرية في العراق، ولم يتم تعويضها وفق المفهوم التجاري الصرف من جهات اخرى، كما ان التفسير المادي التجاري يتجاهل المزاج السياسي للحكام العرب الذين ما زال للعاطفة دور مهم في قراراتهم السياسية. ان المؤشر الجديد يدل على انفتاح العلاقة بين دمشق وبغداد الى الميدان السياسي والاستراتيجي، وهو ميدان اصبح للظروف المحيطة بسوريا والصراع الدموي الملتهب داخل الاراضي الفلسطينية تأثير على تفاعله بمستوى التعبير القومي للتضامن مع العراق وفق التعبيرات الواردة في تصريحات رئيس الوزراء السوري في بغداد «ان الاعتداء على العراق هو اعتداء على سوريا، ونرفض التدخل في شؤون العراق الداخلية» اي رفض خطوط عرض الشمال والجنوب. وبذلك يصبح للعلاقة السورية مستوى من الاهتمام الجدي على الصعيدين السياسي والاستراتيجي لا يمكن وضعه تحت عنوان «النفط مقابل الغذاء» وان التطورات اللاحقة قد تضع مثل هذه العلاقة في مكانة لها حساباتها العربية والاقليمية والدولية.

ان اية فرصة للتقارب والتواصل بين بلدين عربيين او اكثر على ارضية وقواعد راسخة تفتح فرص التفاعل في امكانيات قواها البشرية والمادية، وتبتعد عن اجواء ومناخات الشعارات الاستهلاكية البائدة التي مهدت للنكسات، وكانت عاملاً مساعداً لها، وتتخلص من اهداف المنفعة السياسية السريعة العطب، وتتوجه نحو ارسال معالم نهضة جديدة في ميادين الاقتصاد والتنمية، وتعزيز المصالح القومية المشتركة بين ابناء الأمة وشبابها، ستشكل عناصر قوة حقيقية وتثير حالات عدم الارتياح لدى قوى المصالح الدولية المستفيدة من التمزق والتنازع والوهن العربي، وكذلك لدى الاسرائيليين الذين بنوا امجاد انتصاراتهم على فرقة العرب، وعقبة امام حالة الانتعاش التي حظيت بها الدعوات المكرسة للاقليمية والتجزيئية الطائفية خلال السنوات العشر الماضية.

ان ظهور خط تفاهم سياسي سوري ـ عراقي يثير في هذا الوقت الكثير من علامات الاستفهام في المنطقة وخارجها، وقد تتحول مثل تلك العلامات الى نمط من اساليب التعامل الدقيق والحساس مع سوريا بصورة خاصة، وليس مع العراق الذي يعيش حالة من التعويم السياسي العربي والدولي منذ عام 91 ولحد الآن، ولا تخضع دبلوماسيته لقواعد محسوبة، كما ان نظامه السياسي يسعى حالياً لسحب العرب للدخول في تطبيق منهج جربوه وفشلوا فيه حينما كانت امكانياتهم وظروفهم في الثلث الاخير من القرن الماضي افضل مما عليه الآن. ولا يمكن لمتدبر سياسي ان يجعل من الشارع العربي وسيلته لتحرير ارض فلسطين.

فأية خطوة اقتراب سياسي بين دمشق وبغداد تبتعد عن دوافع المكاسب التكتيكية السريعة، التي تقتل اية محاولة تقارب بين ابناء الملة الواحدة، وتضع مصلحة الشعبين الشقيقين في المقدمة، لها تأثيراتها السياسية على مستوى الصراع السوري ـ الاسرائيلي، وهو صراع كانت بواعثه الرئيسية من الجانب السوري: قومية تحولت بفعل انتكاسة احتلال الأرض الى وطنية تتعلق بالسيادة على الأرض، فيما ظل ايقاع البواعث ذاته على الجانب الاسرائيلي حيث ما زال القادة العبريون يتعاملون تحت مؤثرات هاجس خيار الحرب، وحكوماتهم متباينة الاحزاب والكتل السياسية تتعامل وفق نظرية الأمن التي تعني انتزاع المزيد من التنازلات العربية داخل الاراضي الفلسطينية او على جبهتي سوريا ولبنان، حتى وان وجدوا العرب امامهم منزوعي السلاح ودعاة سلام. وعلى الرغم من اطمئنان الاسرائيليين على مكانة قوتهم العسكرية المتقدمة على جميع العرب من حيث التطور النوعي في حلقات التسليح، وأحادية امتلاك السلاح النووي، وقدرتهم على المبادرة في تحديد نمط اي انفتاح لمعركة محتملة ليبقى في اتجاه الضربات الجوية الخاطفة والمختارة، الا ان الاسرائيليين ظلوا يتمتعون بمكاسب الخلاف السوري ـ العراقي طيلة الثلاثين سنة الماضية، لكونه يضع عقبة تكتيكية امام الخيارات المحدودة للمناورة السورية، والتي استنفدت مبرراتها على الجبهة اللبنانية منذ الانسحاب الاسرائيلي من جنوبه في مايو عام 2000. ولهذا يأخذ العمق العراقي اهميته في المناورة السياسية السورية، على الجانب التعبوي والنفسي اكثر مما هو في الجانب الميداني، لحرب غير مطلوبة ولا مرغوبة لا من سوريا ولا من العرب، ولهذا لا يضيف الحديث عن توازن القوة بين الجبهتين السورية بعمقها العراقي، والجبهة الاسرائيلية، أية قيمة جديدة، خاصة بعد ان جرد العراق من قدرته النووية الرادعة للقوة الاسرائيلية التي كانت متوقعة التحقق بعد عام من كارثة اجتياح الكويت بعد اضخم عملية استدراج لنظامه عندما غزت قواته (الكويت) وتدمير برنامجه النووي نهائياً، وتراجع امكانيات تسليح قواته المسلحة في الكم والنوعية لعشرات السنين، وليصبح شعار تجريده من السلاح ومنعه عن جيشه، دعوة ذات مشروعية دولية لمنع احتمال (عودة اعتداء العراق على جيرانه) وكنتيجة مباشرة من نتائج كارثة الاجتياح.

فانعدام توازن القوة حقيقة ليس القصد منها التقليل من قدرة الجيشين العربيين السوري والعراقي المعنوية وقيمهما في الشجاعة والاخلاص لمصالح الأمة، الا ان معارك اليوم لا تحسم بقوافل الملايين البشرية، وانما بعشرات الأقمار الصناعية والطائرات والصواريخ.. وتجربة العراق شاهد على ذلك للحاضر والمستقبل. وقد اصبح خيار الحرب بالنسبة للعرب جزءاً من ذاكرة التاريخ. ومن هنا فان (تل ابيب) تسعى من خلال ماكنتها الاعلامية الى تضخيم معاني العلاقة السورية ـ العراقية، وتضخيم مخاطرها على أمن اسرائيل ووجودها لكي تدفع واشنطن للضغط على سوريا، واخضاعها للابتزاز الاسرائيلي، على الرغم من ان ما تشهده الساحة الفلسطينية من حرب ابادة ضد الشعب الفلسطيني، قد جعل الموقف السوري في دائرة المناورة المرنة، وفي نقطة بعيدة عن الضغط، بما يعطي للعمق العراقي اهمية تكتيكية.

تل ابيب لا تراقب فقط في ظل ادارة شارون الحربية، وانما قد تغامر بتنفيذ ضربة جوية خاطفة في العمق السوري، تستهدف ارهاب النظام السوري، وزعامته الشابة (بشّار الأسد) لكي تثنيه عن امتلاك مشاعر الشجاعة والتماسك في المواقف والبحث عن عناصر لمجابهة صلفها، ومن ثم تحاول سحب سوريا الى مواضع الابتزاز، وحين ذاك لن يقدم الخطاب الاعلامي المساند سلاحاً للرد والتحرير لا لأرض الجولان ولا لأرض فلسطين.

* سفير عراقي سابق [email protected]