دروز فلسطين بين وليد جنبلاط... وصالح طريف

TT

ربما كان متعذراً او حتى ممنوعاً على وليد جنبلاط تحقيق ما يرغب في تحقيقه للبنان وفي لبنان. ففي لبنان معادلات ومصالح و«خطوط حمراء» مذهبية وطائفية حكمت وتحكم وقد تحكم مستقبلاً على هذا «البلد ـ التسوية» ان يظل «تسوية» بدلاً من ان يتحول الى «بلد». ومع اختلاف الظروف، هذا ما حصل في الماضي مع كمال جنبلاط (والد وليد جنبلاط) الذي كان وجوده ضمانة لإنجاز شيء من التقدم الحقيقي نحو مشروع «الدولة» ضمن اطار الحفاظ على الكيان اللبناني وحدوده. الا انه كتب على جنبلاط الأب ـ رجلاً ومشروعاً ـ ان يعاديه كثيرون، من مواقع متعاكسة ومواقف متناقضة. وهكذا اجهض مشروع الدولة العصرية الديمقراطية الوفاقية حقاً في لبنان، واجّل البت فيه حتى اليوم.

مع هذا فوليد جنبلاط، الذي فرضت عليه الحرب اللبنانية تغيير التكتيك مراراً وتكراراً... مما اخرجه من دائرة وادخله في اخرى، رأى دائماً ان ثمة ثوابت في المواقف لا تتغير ولا يجوز ان تتغير. وهذه ناحية تسجّل له، ويعترف له بها حتى الجزء الاكبر من خصومه.

فهو مثلاً لم يكف لحظة عن استنكار العنف الاعمى في الحرب اللبنانية ـ بل لعله السياسي اللبناني الوحيد الذي أقرّ على الملأ ان السواد الاعظم من القيادات اللبنانية «ولغت في الدم» وهو شخصياً جاهز للمثول امام اي محكمة تنظر في ذلك ـ. ولم يكف ابداً عن الدعوة الى الحوار الوطني العريض. ولم يكف ابداً عن السعي الى عودة المجتمع المدني والحياة الديمقراطية الصحيحة. ولم يكف ابداً عن الدعوة لتبني الخيار العربي الاسلامي هوية ونهجاً متحضراً ومنفتحاً لطائفته، والخيار النضالي في وجه اسرائيل ..لبلده وامته. ولكن مع كل هذا، حرص خصومه دائماً على التشكيك به وبمواقفه. إذ اتهمه نفر بالتقوقع الطائفي لأنه في فترة سوداء من تاريخ بلده وطائفته اجبر على شهر السلاح في حروب تهجير او تهجير مضاد. وفي الاتجاه المعاكس اتهمه البعض لاحقاً بمد يد التحالف الى طائفيي المعسكر الآخر لأنه اعتبر ان الخطوة الاولى نحو الوفاق الداخلي يجب ان تبدأ من الدائرة الاضيق حيث الجرح الاعمق. واتهمته جهات بتغليب عروبته على لبنانيته والانخراط في تحالفات تلغي سيادة البلد. ثم فجأة رمته جهات بتهمة النكوص عن العروبة لأنه اعاد التركيز على الديمقراطية والمجتمع المدني. كما اتهمه آخرون بالانقلاب على المقاومة الاسلامية والوطنية والتفريط «بلبنانية مزارع شبعا» لمجرد انه تحلى بالصراحة والشجاعة فحث على تحاشي المزايدات «فإما اعتماد خيار القتال وبالتالي إعداد مجتمع قتال... او اعتماد خيار السلام وبالتالي وقف العمليات القتالية واخذ مسألة اجتذاب الاستثمارات الاجنبية بالجدية التي تستحق».

لهذا اقول، قد لا يستطيع وليد جنبلاط، او انه سيمنع من تحقيق الانتصار داخلياً... كما حدث مع ابيه من قبله. غير ان هذا الزعيم المثقف والواعي، ورث عن ابيه ادراكاً بأن هناك بديلاً آخر عن الاعتبارات الضيقة التي ما فتئت تأسر غالبية القيادات والزعامات العربية. ولذا اتخذ خطوة فتح ملف دروز فلسطين المحتلة، وبشجاعة، في مرحلة عصيبة من تاريخ الصراع العربي الاسرائيلي وتاريخ المنطقة.

ان ضيق وليد جنبلاط من تعاون بعض دروز فلسطين المحتلة مع الحكم الاسرائيلي، كان دائماً صادقاً. بل في احيان عديدة ظلم الاغلبية بسبب تعاون الاقلية، فانتقد وغضب وشجب. ولعل الشائعات ونقص الوعي العربي (والفلسطيني خصوصاً) بظروف دروز فلسطين عوامل سلبية اسهمت في التصور المغلوط عن ذلك التعاون المدمّر. وللأسف جاء قبول صالح طريف بشغل منصب وزاري في الحكومة الاسرائيلية الحالية ليشكل نكسة في مسيرة ايجابية طيبة تتقدم تدريجياً داخل الاراضي المحتلة. هذا مع العلم ان طريف لم يكن اول عضو كنيست عربي شغل منصباً في الحكومات الاسرائيلية. اذ سبقه آخرون ولكن في منصب نائب وزير (وليد صادق ونواف مصالحة وهما مسلمان سنيّان). كما انتخب للكنيست على قوائم الاحزاب الصهيونية عدد كبير من النواب السنة والمسيحيين إضافة الى النواب الدروز.

اضف الى هذا ان رهان وليد جنبلاط على إخراج دروز فلسطين من ثقل تركة الماضي رهان له ما يبرره الآن. فمن ناحية ازداد الوعي القومي والوطني بفضل تحسن المستوى العلمي لابناء الطائفة، ومن ناحية ثانية اسهمت ثورة الاتصالات في تعزيز التواصل مع محيطهم بعد عزلة طويلة فانقطع حبل التضليل الرسمي الاسرائيلي الذي فرض عليهم عبر قوانين الاحوال الشخصية ومناهج التعليم هوية مزورة لا تكتفي بإنكار إسلامهم بل تنكر ايضاً انهم عرب. ومن ناحية ثالثة اسهم الاحتكاك بدروز الجولان بعد 1967 ودروز لبنان بعد 1982 ومن ثم اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الاولى عام 1979 في قلب معادلات عديدة داخل المجتمع الدرزي (الاسرائيلي) الذي هو في غالبيته مجتمع قروي ريفي.

ولكن هناك الآن عنصر اضافي مهم من شأنه دعم رهان وليد جنبلاط على دروز فلسطين هو تزايد الضغط التوسعي الديموغرافي على قرى الدروز وبلداتهم في منطقة الجليل، حيث لا يستبعد ان يؤدي توسيع المستوطنات الاسرائيلية الى مصادرة مزيد من اراضي القرى الدرزية. وتجدر الاشارة هنا الى ان معظم اراضي بلدة بيت جن، في اعالي الجليل، انتزعت من اهلها. وبالتالي اضطر كثيرون من شبابها للعمل في المؤسسات الحكومية الاسرائيلية، ومنها طبعاً الجيش. وفي هذا السياق، وهذه حقيقة يعرفها اهالي الجليل جيداً، يجب الاشارة الى انه ما كان لـ«يوم الأرض» في فلسطين المحتلة أن يكون لولا الوقفة الصلبة لدروز الجليل في دعمه.

اما عن المتعاونين فلا شك في وجود تيار متعاون بين دروز فلسطين، بدرجات متفاوتة تبدأ من المتعاون اضطراراً الى المتعاون استنساباً وصولاً الى المتعاون عمالة. بيد ان هذا التعاون لا يقتصر ولم يقتصر ابداً على الدروز. وهنا يمكن مراجعة كتب مهمة جداً في هذا المجال مثل كتاب صبري جريس «العرب في اسرائيل» او كتابي الدكتور قيس فرّو عن دروز فلسطين «A History of the Druzes» و«The Druzes in the Jewish State». ذلك انه مقابل انتظام بعض الدروز في الاحزاب الصهيونية كأيوب القره وامل نصر الدين وزيدان عطشة وجبر الداهش المعدي، وقف آخرون بقوة ضد المؤسسة الصهيونية من امثال الدكتور نديم القاسم والشيخ فرهود الفرهود والشهيد عاصم الخطيب والشاعر الكبير سميح القاسم والشاعر والكاتب سلمان ناطور وعضو الكنيست السابق وامين عام الحزب الشيوعي الاسرائيلي محمد نفّاع والشيخ جمال معدي.

طبعاً، بين دروز اسرائيل ممن هم ابواق لأسيادهم زايدوا حتى على الحكومة الاسرائيلية عندما اعتبروا رهان وليد جنبلاط على التغيّر تدخلاً في الشأن الاسرائيلي. وهؤلاء عملاء ساقطون من الحساب اصلاً كغيرهم من القلة القليلة من العملاء والمخبرين من ابناء الشعب الفلسطيني.

لكن مما لا شك فيه ان على جنبلاط إكساب مسعاه مزيداً من الشمولية. فعدد من الشخصيات الدرزية في فلسطين المحتلة رفضت منذ عهد بعيد ان تنشط في الأساس على صعيد درزي، مفضلة ان يأتي نضالها ضمن تنظيمات وطنية وتقدمية غير طائفية. وهذه العناصر يجب التعامل معها ومد يد الدعم اليها. كذلك هناك فئات مترددة او متحفظة عن التأييد العلني بسبب ظروف متعددة لكنها نقية المبادئ وتقف ضد استمرار التجنيد الاجباري وضد التباعد مع المجتمع الفلسطيني المحيط. وهذه الفئات ايضاً تستحق التشجيع والمعاونة. واخيراً لا بد من كلمة عن صالح طريف.

انه سليل اسرة كريمة لها في تاريخ الدروز مكانة واعتبار. وبالنظر الى كياسته السياسية، التي يشير اليها عارفوه، فهو مطالب باتخاذ قرار فصل عن استعداده للبقاء شاهد زور على تلاحق الاحداث في الاراضي المحتلة. فهو خارج اطار «الحكومة الامنية المصغرة»، وعليه لن يسمع صوته اذا ما قرر آرييل شارون شن حرب اوسع واقبح من الحرب الحالية. لكنه في الوقت نفسه، بحكم هويته، عربي فلسطيني موجود في المكان والزمان غير الملائمين. فهل سيطول انتظار الخطوة المأمولة منه؟