ما غرنا دجلة والفرات والنيل

TT

قرأ ملايين العرب المتنبي، في منازلهم وبيوتهم ومدارسهم وإيواناتهم وعلى شرفاتهم وفي ساحاتهم. اعتقدناه رجلا يرسل الشعر والحكمة والنصل وهو جالس يدوّن خواطره ويلوّن عواطفه ويدير ظهره للناقصين، إن ذموا وإن ظنوا أنهم وكلاء الدفاع المكلفون عن الثروة الثلاثية: الإسلام، ولغته، وشاعرها.

لم يخطر في بال أهل الحواضر كيف عاش ذلك الخيال، ولا أن معظم ما كَتَبَ قد كتبه في برد الصحاري وفي حرها وتيهها وفضائها الذي بلا نهايات. كان لا بد لبدوي آخر، أن يمشي في أثر شاعره العظيم، من أجل أن يدلنا على الصحر والوعر الذي سار فيه أبو الطيب يطلب المجد وهو متكئ على راحته، فريدا في السيرة، فريدا في استمطار الشعر، فريدا في لغة المفردات، ينتقي زمردها بسهولة من يحصد. أو بسهولة «حاطب ليل».

أدركت في أي عالم عاش المتنبي عندما كانت السيارة تقطع بنا حفافي الدهناء بسرعة 180 كيلومترا. تطلعت في هذه الأمداء الحمراء الرخوة المتزعزعة، وأنا أتخيل، كيف قطع ذلك الفارس هذه الكثبان المرعبة وبقيت له شجاعته وبقي مصرا على تمضية الرحلة ما بين الخيل والليل والبطحاء والقلم.

في نثر صلد، حاد، مصقول مثل شعر المتنبي، كتب لنا عبد العزيز التويجري، ما عجز عنه أبناء الحواضر. رسائل (1) من بدوي فارس في الحداثة إلى بدوي فارس في القدم. يعظمه ويكبّره ويوحّد شعره، لكنه يمسك به من كتفه مؤنبا: لماذا كل هذا التشاؤم؟ لماذا «كفى بك أن ترى الموت شافيا / وحسب المنايا أن يكن أمانيا»؟.

يفاخره البدوي النجدي ويعاتبه ويقول له: «نحن، في أيام الربيع، يا أبا الطيب، ننصب خيامنا ونقيم في أحضان الطبيعة. فروائح الخزامى ورائحة الروض الذي سقته السحب ثم عللته، أبقتنا في قلب هذه الصحراء آلاف السنين. لم تغرنا مياه دجلة ولا الفرات. ولا مياه وادي النيل. ولم تخرجنا من عزلتنا في هذه الصحراء قسوة الحياة علينا. صبرنا واحتملنا أعظم الاحتمال، فلم تظلم الدنيا في أعيننا ولم تكن المنية لنا أمنية».

يحسن أن يوصى بأن يقرأ المتنبي بعد الآن بعد قراءة رسائل النجدي الراحل عبد العزيز التويجري إليه.

سوف يكون لشعره عمق آخر وتكون لسيرته أبعاد أخرى. ومن يرد المزيد عليه أن يمر قرب الدهناء. بأي سرعة كانت.

(1) «في أثر المتنبي بين اليمامة والدهناء» الدار العربية للعلوم.