الاستجابة الثالثة في الصراع العربي ـ الإسرائيلي

TT

غيرت الاستجابة الثانية للتحدي الاسرائيلي في غالبية الانظمة السياسية العربية التي كانت قائمة في دول الجوار من خلال الانقلابات العسكرية التي ـ وان لم تحدث تحولاً ديمقراطياً ـ الا انها احدثت نقلة نوعية في المجال الاجتماعي والاقتصادي. ومن المقبول ان نتصور ان الهزائم التي لحقت محاولات الاستجابة الثانية كانت شيئاً طبيعياً، فالثورات التي حدثت من أجل تقويم مجتمعاتها لمواجهة مع الاغتصاب الاسرائيلي بمعانيه الواسعة لم تكن هباءً مهماً احصينا من اخطائها وكانت ـ على اية حال ـ منطلقة من ظروف وشروط معينة، ربما نرى الآن انها كانت بنت هذه الظروف ومتفقة مع امكانياتها. ومهما يكن من امر فاننا لا نستطيع ان نقارن بين القوة العسكرية التي كانت تملكها الدول العربية، خاصة دول المواجهة ـ وبين قوتها الآن. ومع انه من الممكن التحدث عن تدهور في بعض المجالات والانشطة الاجتماعية الا ان هذه المجتمعات العربية قفزت إلى ابعاد اخرى في الكثير من المجالات، بما في ذلك المجال العسكري باعتباره من ابرز ادوات الاستجابة إلى تحديات العنف الخارجي.

قد تكون المقارنة بين التقدم الاسرائيلي والعربي خلال الخمسين سنة الماضية ليست في صالح العرب، لكنها بالقياس إلى الامكانيات والفرص المتاحة، وفي مواجهة تحد لا تقوم به اسرائيل وحدها بل العالم المتقدم في اقوى اجنحته، تعتبر قفزات نوعية إلى حد ما. وفي ثلاث حروب لم تغب عنها القوى الكبرى لم تنكسر القوى العربية الانكسار الذي ينشده التحدي الاسرائيلي واستطاعت دول التحدي مع حركة المقاومة الفلسطينية ان تعيد تسليح نفسها وان تفرض على القوى الكبرى البحث عن ردع عسكري حاسم آخر وهو السلاح النووي مع حرمان الجيوش العربية منه وحصارها حصارا صارما، وقصة هذا الحرمان مليئة بالخدع والعهود الكاذبة وما زالت المراسلات بين الرئيس الامريكي الأسبق جون كنيدي وعبد الناصر محفوظة في ارشيفات الدولة وفيها وعود وتعهدات لم تتحقق. وكان اهم ما فيها من وعود هو الوعد بأنه لن يسمح لاسرائيل بتسليح نووي اذا كفت مصر عن محاولة الحصول عليه. على انه إلى جانب هذا الاخلال بالوعود كانت هناك ملاحقة للعلماء المصريين والعرب بلغت حد الاغتيال وحدث ما هو ابعد من ذلك عند ضرب المفاعل الذري العراقي.

وكانت الاستجابة العربية للتحدي الاسرائيلي محكومة ايضاً بالأوضاع السياسية الدولية وفي فترة الاستقطاب بين الدولتين الكبريين، الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي السابق، كانت النظم العسكرية هي الغاية المنشودة وذلك لسهولة اصدار القرارات السياسية العليا في الانظمة العسكرية أو قل الديكتاتورية عندما تحتاجها الدولة الكبرى عند حدوث مواجهة عسكرية كانت متوقعة دائماً طوال الحرب الباردة، وكان من الصعب على القوى الديمقراطية ان تجد فرصة أو مساندة ولو بالسكوت لتتحرك نحو التحديث الديمقراطي. وكانت الامثلة تضرب كل يوم في اكثر من دولة، ومنها مذبحة شيلي ومقتل الرئيس الشيلي المنتخب بواسطة انقلاب عسكري قاده بينوشيه الذي تجري محاولة محاكمته الآن على جرائمه الكبرى وتصفياته الدموية، ولم يخل المعسكر الاشتراكي من التحذيرات المماثلة كما حدث في المجر وتشكوسلوفاكيا من جانب الدولة الأخرى: الاتحاد السوفياتي.

لم تكن التحولات الديمقراطية ممكنة حتى لو ارادتها القوى الاجتماعية المحلية أو كانت قادرة عليها. وبسبب هذا التحفز العسكري بين القوتين الكبريين والخوف من المواجهة، صار هناك اتفاق على مواقف مشتركة، خاصة في المناطق الساخنة، ولعل من اهمها منطقة الشرق الأوسط التي كانت الولايات المتحدة تعتبرها غير قابلة للمساومة وأي هزيمة لاسرائيل تعني اشتعال الحرب. ولعل هذا هو الذي شكل تلك الاستراتيجية العجيبة التي سميت توازن القوى في الشرق الأوسط، بمعنى ان تكون اسرائيل الصغيرة قادرة على مواجهة كل القوى العسكرية العربية. وهو ما حدث بالفعل وظل التسليح الروسي للعرب في نطاق هذه الاستراتيجية إلى اليوم. ولم يتغير الوضع حتى بعد امتلاك اسرائيل للسلاح النووي. وفي حرب اكتوبر 1973 تدخلت الولايات المتحدة بشكل سافر واسرع الرئيس نيكسون بارسال الدبابات إلى ساحة القتال بواسطة اسراب من الطائرات العملاقة وزاد على ذلك باعلان التعبئة النووية. أما الثغرة فهناك ادلة عديدة غير منكورة عن دور طائرات الاستطلاع الامريكية في تزويد اسرائيل بالمعلومات التي تساعد على حدوثها.

وعلى الساحة الثقافية حدثت تغييرات اساسية وفرض التحدي الاسرائيلي استدعاء المخزون التراثي وظهرت التيارات الاصولية استجابة للفكر الاصولي اليهودي الذي راح يظهر طابعه الارهابي في الاغتيالات ـ حتى ضد اليهود انفسهم ـ وفي التعصب العنصري البالغ الدمامة الذي نراه الآن في التصفيات الدموية التي تقوم بها حكومة شارون بالاضافة إلى الاصوليين المتعصبين سواء في المستعمرات أو في قلب السلطة الاسرائيلية نفسها. وجاء الرد الاصولي العربي من نفس النسيج وراحت التيارات التي تزعم انها اصولية تجنح إلى الرفض وإلى الارهاب. وبسبب محاولة الدول الكبرى ـ والولايات المتحدة الامريكية ـ بصفة خاصة، تهميش العالم العربي واضعافه، اصبحت المجتمعات العربية، وربما الحكومات ايضاً، تعاني من الاغتراب وسط المجتمع الدولي الذي لم يستطع ان يمد يد العون لها، ومع مرور الوقت امكن تهميش دور المنظمة الدولية ايضاً. وهكذا عانت المنطقة من احباطات مشاعر الاستلاب بما يترتب عليها من ردود افعال متباينة منها اشكال التمرد المختلفة ومنها ضعف المناحي العقلانية وسيادة الخرافة التي قد تشكل مهرباً من المواجهة الصعبة. وعلى الرغم من كل هذه الآثار السلبية الا ان الاستجابة العربية في مجملها لم تنهزم. حقاً ان تدهوراً ما لحق الثقافة السائدة وكسر الموجة العقلانية التي بدأت منذ عهد محمد علي في مصر وفي لبنان وسوريا وقادت حركة استنارة بالغة القوة وصلت إلى الذروة على ايدي كتاب ومفكرين من طراز طه حسين والعقاد وهيكل وتلامذتهم في ما بعد. ولكن كل هذا توقف وانكسر بسبب التحدي الاسرائيلي الذي كان مفاجئاً ولم يحسب حسابه جيداً ولم يكد احد يلتفت اليه حين بدأت الحركة الصهيونية نشاطها في بداية القرن العشرين. وعلى الرغم من ظاهرة التدهور الثقافي التي اجتاحت العقل العربي، وخاصة في مصر فان هناك مؤشرات على بداية شيء من التعافي، ربما بسبب جيش المثقفين المستنيرين الذين شكلتهم العقود السابقة والذين عزلتهم موجة التدهور عن جماهيرهم وظلوا يقاومون إلى ان بدا انهم يستردون بعضاً من قواعدهم الجماهيرية التي كانوا قد افتقدوها. وبالفعل ظهرت مؤشرات على التغير المستنير في المؤسسة القضائية العليا وفي اوساط المثقفين الذين راحوا يؤكدون على ضرورة التحديث والاصلاح السياسي، مما يرجح ان حالة الاصلاح لم تعد بعيدة وان حركة الاستنارة الجديدة تكتسب كل يوم جماهير جديدة في اكثر من موقع.

وفي الاستجابة الثالثة هناك ادراك شبه عام بأن الاستجابة للتحدي الاسرائيلي وابعاده الدولية ينبغي ان تنطلق من تحديث المجتمع واصلاح نظامه السياسي بما يعطي دفعة قوية لتجميع القوى للقيام بمواجهة قادرة على قمع التحدي. ولعله لهذا السبب تبالغ اسرائيل في الإفراط في استعمال القوة ضد الشعب الفلسطيني، بل وتهدد بشن حرب شاملة وتخوف المصريين بضرب السد العالي والمنشآت الكبرى، ولكن الرد المصري لم يكن مجرد الاستهانة، بل باتخاذ الاجراءات الكفيلة بمواجهة التهديد في ما لو وقع، ومن الواضح ان السلطات العربية ادركت ان اسرائيل عاجزة عن تقبل مشروعات السلام وربما رافضة بواكير الدلالات الظاهرة الآن عن مستقبل الصراع العربي ـ الاسرائيلي الذي يسعى حثيثاً نحو دولة ديمقراطية بالفعل يشترك فيها العرب واليهود ويتم فيها تداول السلطة بواسطة صناديق الانتخاب. وهو التصور الذي راحت تدركه حركة الاستنارة العربية الجديدة التي بدأت تتكون الآن.

ومهما يكن من امر فانه من الواضح ان الاستجابة العربية اقوى مما تنبأ الذين فكروا في زرع الدولة الاسرائيلية في فلسطين وفرضها فرضاً على شعوب المنطقة، كما كان تفكير قادة الحركة الصهيونية قاصراً وساذجاً حين ظنوا بغرور الغبي، ان فلسطين ارض بلا شعب وان وجودهم فوق الارض الفلسطينية لن يصادف اي مشكلة.

نحن نتحدث كثيراً عن تدهور القوة العربية وعجز الشعوب العربية ودولها عن مواجهة التحدي الاسرائيلي البالغ الضراوة والمستند إلى مؤازرة من دول كبرى، ولكن الواقع ان الاستجابة العربية للتحدي بالغة القوة وتستمد اصرارها وثباتها وتطورها من تراث حضاري شديد الثراء لا يسمح بأي انكسار. وربما كانت الاستجابة الثالثة هي الحاسمة في انهاء النزاع واقامة دولة ديمقراطية على ارض فلسطين وهو الامر الذي يؤشر في نفس الوقت إلى مستقبل الديمقراطية في الوطن العربي كله.