سنوات في مصر 10: بين جمال عبد الناصر وحافظ الأسد.. وأيضا صدام حسين

TT

كانت أوجه الشبه كثيرة بين شخصية جمال عبد الناصر وشخصية حافظ الاسد. كذلك كانت أوجه الخلاف بينهما كثيرة وواسعة.. فكلاهما «أراد» الوحدة وشغلنا وشغل شعبه بها. ولكن حافظ الاسد اراد الوحدة لكي يخلق ـ وان صح التعبير ـ سوريا «المكُبّرة» ـ ولا أقول سوريا الكبرى ـ اي انه اراد وحدة تضم سوريا ولبنان والاردن، والهدف من وراء هذا النوع من الوحدة يصب في القطر السوري قبل سواه. بينما عبد الناصر ارادها وحدة عربية شاملة بكل معنى الكلمة.

كان يقول للسودانيين ان الوحدة «الفعلية قائمة بين مصر والسودان من دون أوراق او اتفاقيات أو نصوص.. لأنها ـ أي الوحدة ـ لا تحتاج الى نصوص».

وكان يقول للدكتور نور الدين الأتاسي ـ الرئيس السوري في عام 1969، ان التعاون بين دمشق والقاهرة هو مسألة حياة أو موت، وانه لا بد من قيام جبهة شرقية قوية تضم العراق وسوريا والاردن، وان الحل السلمي للصراع العربي ـ الاسرائيلي ـ كما قال للملك حسين في اغسطس من عام 1969 يجب ان يتوفر له عاملان مهمان: أولهما الوحدة العربية مع التضامن العربي.. وأنا افهم ـ والكلام لعبد الناصر ـ ان ازالة آثار العدوان تعني تحرير «كل» أكرر.. كلمة «كل» الاراضي العربية المحتلة، لا سيناء وحدها!».

يعني: كان عبد الناصر يفهم معنى الوحدة كأوسع ما يفهمها شاعر عربي عاطفي أو قائد وطني أو محرر قومي أو زعيم عسكري منذ ايام صلاح الدين الايوبي الى يومنا هذا.

هكذا رأيته..

هكذا فهمت كلامه.. هكذا استمعت اليه في منزله وفي مكتبه وفي قصر القبة، وفي المراكز العسكرية المهمة التي كان يجري فوق ارضها الصحراوية تجارب اطلاق الصواريخ ـ الظافر والقاهر ـ بحضور نخبة من المستشارين ورجال القلم في أوائل الستينات.

وقبل ان تقوم الوحدة بين سوريا ومصر، تسنى لي ان اكون في القاهرة وان أنقل للمسؤولين المصريين فيها بعض الخطوات السورية القادمة في اقامة هذه الوحدة التي كانت اخبارها تصلني قبل غيري من بيروت ـ وكان ردهم لي باستمرار ـ «ان لا وحدة هناك ولا ما يحزنون»!! قالها لي هيكل، الصحافي الزميل، وقالها لي الدكتور حسن صبري الخولي، وقالها لي كمال الحناوي وصلاح سالم وعبد القادر حاتم وكان كل منهم ينتهي دائما بعبارة واحدة: «بس يا شيخ! بلا وحدة بلا دوشة بلا كلام فارغ!» الاّ عبد الناصر..

الا هو..! فقد كان في قرارة قلبه ونفسه، جنديا محاربا في كل معركة من معارك تلك الوحدة.

كان يجاهد من اجلها، وكان ينتظرها. ولم يكترث لكافة الآراء المعاكسة التي كانت تهب على مسامعه من امثال حسين الشافعي وعلي صبري، وتنتقد فكرة الوحدة من اساسها وتصفها بأنها عملية «مشبوهة» اريد بها ضرب مصر من الخارج.

وكان كلاهما ـ عبد الناصر والاسد ـ يرى في الوضع اللبناني وكأنه يشبه «الخاصرة الضعيفة» في الجانب السوري وفي الجانب الاردني معاً، فلا يتردد في التدخل ـ بكل اشكاله وصوره ـ من اجل الحفاظ على ذلك البلد الصغير الضعيف، وضمان استقلاله واستقراره.

وكلاهما كان اشتراكيا.. حتى النخاع وحتى العظم. فقد انشأ عبد الناصر ما كان معروفا بـ«تنظيم تحالف الشعب» وقال بعد هزيمة «حرب حزيران (الأيام الستة)» وبعد 30 مارس (آذار) من عام 1968 انه كان «يطبق الاشتراكية بدون اشتراكيين».

وكلاهما كان من خريجي «المؤسسة العسكرية»، ومن صميم حياتها، وطباعها، واخلاقها، واندفاعها.

وكلاهما كان يؤمن بأن التوازن الاستراتيجي وحده قادر على ان ينصر العرب على اسرائيل وان يسترد كل ما ضاع في حرب «الايام الستة».

ولم يكن جمال عبد الناصر دموياً وإن كان صحيحا انه كان عدوا لدودا للولايات المتحدة الامريكية ولاسرائيل معاً ولكل من يتعاون مع اي منهما. ولكن الصحيح ايضا انه كان قاسيا في الاحكام على رؤوس «الاخوان المسلمين». وكان يؤمن ـ عن حق وعمق ـ بالمأساة الفلسطينية وضرورة الوصول الى حل سريع وعلاج عادل لها! ولكن عبد الناصر ـ وعلى عكس حافظ الاسد ـ كان ضعيفا أمام تيارات الرأي العام العربي، وأمام آراء المستشارين الكثر من حوله، بينما حافظ الاسد لم يعط أية قيمة لما يقوله عنه العرب أو الجيران. كان يسمع الكثير، ثم لا يعمل الا بما يراه أو يرى فيه مصلحته.. أو مصلحة حزبه.. أو مصلحة سوريا.. وايمان عبد الناصر بالوحدة نابع من نبض صاف وحقيقي لم يرد به ان يخفي شيئا أو يغطي شيئا أو يفاخر بشيء. وقيل ان عبد الناصر كان مسؤولا عن ذهاب الفلسطينيين الى مدريد أو أوسلو.

لا ...غيره فعل ذلك وغيره يحمل المسؤولية. ولم يؤمن عبد الناصر بالعنف.. وأحب الشعب من حوله واستطاع ان يتحول الى نبض قوي لقلب هذا الشعب ويجعل هذا الشعب دائم الانتظار لما سيقوله أو لما لم يقله، في خطاباته الشهرية أو الموسمية..!! وكان دوماً يسأل زواره عن المواضيع التي تشغل بال الناس الذين يتحدثون عنها. وما من مرة زرت القاهرة قادما من بيروت أو دمشق أو بغداد، الا وسألني عبد الناصر عن حديث الناس في مجتمعات تلك العواصم وعن هموم المجتمعات السياسية في الوطن العربي قائلا بكل عفوية: الناس بتقول أيه؟ بيتكلموا عن ايه؟

وفي يوم 29 سبتمبر (ايلول) من عام 1961، وبعد الانفصال مباشرة، ذهبت مع المسؤولين في دار التحرير للالتقاء بعبد الناصر في منزله، كعملية تأييد ومناصرة وتعزية.

وفي الطريق التقينا بالضابط علي شفيق، من رجال مكتب عبد الحكيم عامر، الذي سألني بلهفة:

ـ أنتم رايحين فين؟

قلت: الى منشية البكري..

وعاد يسأل: علشان ايه؟ في ايه هناك؟

ولم أجبه: فقد تولى صلاح سالم مهمة الرد قائلا بعنف وسخرية وعصبية:

ـ علشان نهنئ «المشير بتاعك» على الانفصال.

ودقت العبارة سمعي كالقنبلة ..وادركت انه ولأول مرة يظهر الخلاف العميق بين قادة الثورة من جهة، والمشير عامر، على السطح عقب هذا الانفصال.

وقد شدنا جمال عبد الناصر ورجال ثورة 23 يوليو عن الالتفات الى شخصيات عربية اخرى كانت تبني نفسها وتراقب ظروفها لكي تدخل الى معترك الحكم، وتضرب ضربتها، وتحكم..

ولم يكن حافظ الاسد، غريبا عن هذا، ولا غريبا عنا. ولم تكن سوريا بعيدة عن القدس أو قضية فلسطين ...

ان نظرة عابرة ـ وسريعة على بعض صفحات تاريخنا المعاصر، تفسر كلامي، لقد اتفق الانجليز مع الفرنسيين في مايو من عام 1916 على اقتسام ما تبقى من الامبراطورية العثمانية المنهارة.. ولكن هذا الاتفاق السري المعقود بين مارك سايكس (بريطانيا) وجورج بيكو (فرنسا) في مايو من عام 1916 لم يرض اليهود ولم يصفق له الانجليز، مما حدا بالحكومة البريطانية ـ ضمن اسباب اخرى كثيرة ـ الى اصدار «وعد بلفور» المشؤوم، وفي الثاني من نوفمبر (تشرين الثاني) من عام 1917. وبينما كان الجيش البريطاني يتقدم صوب مدن رفح وخان يونس لمواجهة القوات التركية، كان الآلاف من سكان القدس ـ من سكان بلدي ـ يموتون جوعا ومرضا، عمدت القيادة البريطانية في زحفها صوب جنوب فلسطين الى استبدال قائد الحملة الجنرال موري بالجنرال ادموند اللنبي الذي استطاع الاستيلاء على مدينة غزة من قوات الاتراك في السابع من اكتوبر عام 1917.. وبعد شهرين فقط أي في التاسع من ديسمبر من نفس السنة، استولى الانجليز على القدس.

وننتقل الى حروبنا مع اسرائيل.. الى ما بعد قيام اسرائيل.

ان ما يسمى «بحرب الاستقلال» أي حرب «النكبة» لم يدم أكثر من عشرين شهراً... من 10 نوفمبر 1947 الى 20 تموز (يوليو) 1949.

ومن شهر ابريل (نيسان) الى منتصف مايو من عام 1948 استولت القوات الاسرائيلية على اهم اجزاء فلسطين، وسقطت مدن حيفا، وطبريا، وصفد، ويافا وعكا وبيسان.

سقطت أرض فلسطين الشمالية والجليل الشرقي.. المحاذي للحدود السورية..!! وأعلنت الهدنة الأولى في يوم 11يونيو 1948.

ولم تحصر اسرائيل مطالبتها الدول الأربع الكبرى بالحصول على تعويضات من المانيا بقيمة مليار ونصف المليار دولار، فإنها ـ أي اسرائيل ـ مضت في مشاريعها لتجفيف مياه بحيرة «الحولة» بالقرب من الحدود السورية. وبدأت الاشتباكات المسلحة بين سوريا واسرائيل بالقرب من منطقة «الحمة» التي بقيت في يد السوريين حتى حرب عام 1967 واستمرت الاشتباكات بين سوريا واسرائيل في شمالي بحيرة طبريا.

كما استمر التوتر بين الطرفين حول أرض الشمال من البحيرة.

وتدخل الجنرال رايلي ـ المراقب الدولي ـ وطلب من اسرائيل السماح باعادة العرب المهجرين من المنطقة الحدودية الى قراهم، وتوالت الاشتباكات حول منطقة «الحمة» وسقط الكثيرون من افراد القوات السورية.. ضحايا العدوان الاسرائيلي! وفي 27 سبتمبر(ايلول) عام 1953 وصل المستر اريك جونستون ـ الخبير المائي الدولي لبحث مشاكل مياه نهر الاردن بين سوريا واسرائيل. وأعلن مسؤول دولي كبير واسمه الجنرال فاغان بانيك عن تأييده وجهة نظر سوريا حول عملية اسرائيل في تحويل مجرى نهر الاردن. واعلنت امريكا وقف المعونات المالية لاسرائيل الى ان تتوقف عمليات تحويل مياه الاردن، واذعنت اسرائيل للقرار الامريكي واعلمت مجلس الأمن الدولي انها اوقفت «مؤقتا» عمليات تحويل مياه نهر الاردن.

وفي شهر يوليو من ذلك العام وقع هجوم سوري اخر على دورية بحرية في شواطئ طبريا.

ثم ـ في 11 ديسمبر من عام 1955 ـ تجددت الاشتباكات ووقعت عشرات الاصابات في الجانب السوري نتيجة هجمات عسكرية اسرائيلية أمر بها ديفيد بن غوريون، بينما عارضها موشيه شاريت، وادانتها موسكو وواشنطن.. ومجلس الأمن، وقال عنها «الرفيق» خروشوف: «ان اسرائيل هي اصبع الاستعمار العالمي..!!» ولم يصل شهر اغسطس من ذلك العام حتى بدأت القلاقل الداخلية في سوريا، وطردت السلطات السورية الدبلوماسيين الامريكان من اراضيها.

وفي 3 ديسمبر من 1958 تساقطت القنابل السورية فوق المستعمرات اليهودية في منطقة الجليل الشرقي والغربي.

وفي اوائل عام 1962، تجددت الضربات السورية على صائدي الاسماك اليهود في بحيرة طبريا، وتصاعدت حدة الضربات في الربيع، وردت اسرائيل بعدوان واسع عند مستوطنة «عين جيف» وعند جنوب شرق البحيرة الى ان نجح الوسطاء الدوليون في تجميد اعمال الزراعة الاسرائيلية في نهاية عام 1962.

وفي 11 سبتمبر من عام 1964 قررت القمة العربية في دورتها الثانية تأييدها لمشاريع تحويل الاردن بعيدا عن السيطرة اليهودية.

وفي حزيران من عام 1964 اعلنت اسرائيل انها قد اتمت تنفيذ مشاريعها لتحويل مياه نهر الاردن الى.. صحراء النقب.. على ان تجري عمليات ضخ المياه من بحيرة طبريا ـ كخطوة أولى ـ بعيدا عن انظار العرب وسوريا والامم المتحدة! هذا المشروع قادر على نقل ثلاثمائة مليون متر مكعب من المياه الى صحراء النقب! وفي وقت آخر تدخلت اسرائيل عسكريا ومنعت سوريا من تنفيذ مشاريعها في تحويل مياه النهر لمصلحتها، حتى تم التخلي السوري نهائيا عن المشروع في يوليو من عام 1966.

وفي أوائل عام 1967 اسقطت اسرائيل ست طائرات حربية سورية من طراز «ميج 21» وشعرت اسرائيل ان الخطر الحقيقي عليها يأتي من «الشمال» ومن سوريا بالذات. وفي 8 يناير 1969، ولما تبرد بعد قنابل الحرب، اسقطت اسرائيل سبع طائرات «ميج» فوق الجولان.

وبدأت حرب الاستنزاف في مارس 1969.. ومضت السنون.

وجاء مناحيم بيغن ـ زعيم «حيروت» وزعيم الليكود الى منصب رئاسة وزراء اسرائيل. وقيل لي في واشنطن بلسان رجال الخارجية الامريكية ورجال البيت الابيض، «ان احداً لا يقدر على عقد السلام مع العرب سوى.. مناحيم بيغن!».

وقلت لهم: «لا أحد يكرهه العرب ولا يثق به الفلسطينيون، اكثر من مناحيم بيغن .. مثله ارييل شارون ..ومثلهما موشيه دايان!» وجاءت «اتفاقية كامب دايفيد» في مارس 1979..ولم ينته الصراع...

وجاءت «حرب العبور» في السادس من اكتوبر 1973ودامت 18 يوما ولم ينته الصراع.

وانتهت تطورات الحرب بان استطاع الجيش الاسرائيلي الوصول الى نقطة داخل الارض السورية لا تبعد اكثر من 40 كلم من العاصمة دمشق ولم تتوقف الاشتباكات الا في آخر مايو 1974، حين جرى التوقيع على اتفاق فصل القوات ومجيء القوات الدولية الى الجولان للفصل بين الاطراف مع انسحاب اسرائيل من مدينة القنيطرة.

الى هنا، كنت أرقب احداث الجبهة السورية الاسرائيلية وكنت اكتب عنها.. وأحلل نتائجها! لقد بقيت فلسطين في قاموسي هي سوريا «الجنوبية» وكنت اراقب احداثها وكأنها احداث فلسطين!.

تماما، كما كنت أكتب عن الجبهة المصرية أو الجبهة الاردنية! نعم! تماما، وكما كنت اراقب احداث الجنوب اللبناني، واحداث القدس والضفة الغربية، وكأنها صورة واحدة اصابها بعض التمزق! لقد بقيت خريطة فلسطين، بكل ابعادها وكل حدودها في نظري وفي قلبي «واحدة» موحدة لا تقبل التجزئة، وان ما كان يجري على جبهة الاردن يتردد صداه على الجبهة المصرية أو اللبنانية أو السورية! الى ان جاء السلام بين الاردن واسرائيل..! هكذا ارادت امريكا.

ولكن سوريا تجاهلت سلام الاردن مع اسرائيل بينما رحبت به مصر وبينما «حزب الله» ـ من جنوب لبنان استمر في اطلاق صواريخ الكاتيوشا ساعة التوقيع على الاتفاق المذكور.

ترى، هل بقيت سوريا بالنسبة الى فلسطين، و بالنسبة الى الفلسطينيين أو بالنسبة لي شخصيا «محصورة» في هضبة الجولان منذ عام 1947 حتى اليوم؟

لا! لا اظن.. ولن أظن! ان ما يجري حاليا في مطلع القرن الجديد هو مجرد امتداد لما كان يجري في تلك الارض على مدى الخمسين سنة الماضية أو اكثر.

لقدر زرت سوريا قبل وحدتها مع مصر، ويوم الوحدة مع مصر، وبعد الوحدة مع مصر..!! وفي الخمسينات كنت التقي في دمشق بأديب الشيشكلي، والرئيس هاشم الاتاسي، وصبري العسلي، فلا أجد عندهم سوى المسكنة والتراخي واللامبالاة، ولم ينقذني منهم سوى الجنرال شوكت شقير رئيس اركان الجيش السوري يومذاك. وعندما هاجمتهم ومنعني ابن الرئيس الاتاسي من دخول الشام، ارسل لي شوكت شقير سيارته الرسمية ونقلتني الى دمشق.

كنت اعثر عليهم في صالونات «نادي الشرق» بالعاصمة السورية دمشق وقد تفرقوا حول موائد «الورق» وتدخين النارجيلة، وقراءة الصحف، وتبادل اللعنات، مع نشر الاشاعات.. فهذا صبري العسلي يطلب مني ان انشر على لسانه بأن خالد بكداش ـ الزعيم الشيوعي ـ يهدد باغراق دمشق في بحر من الدماء اذا لم تتحقق المعجزة ويأتي الرئيس جمال عبد الناصر «لضمها» الى مصر!. وأنشر الخبر، وتنقله عن جريدتي المصرية صحيفة «الهيرالد تربيون» الامريكية ويسألني سفير مصر في بيروت بلسان عبد الناصر: هل الخبر صحيح؟! واجيبه: نعم صحيح! ان ما قاله لي السيد صبري العسلي صحيح. ولكن ما يزعمه خالد بكداش عن طوفان الدماء يقبل الشك! وكل هذا والرئيس الاتاسي يشكو من مرض الشيخوخة أو شيخوخة العمر، وفخري البارودي مشغول بليالي السهر والطرب والرقص الشعبي، وخالد العظم يجمع التحف والسجاد ويستعد للسفر الى بيروت للراحة والاستجمام بعد ان انتهى من كتابة مذكراته، والسباق قائم على قدم وساق في ميادين الفساد واستغلال النفوذ والتآمر.

اريد ان اقول انني لم اتوقع ان تدوم تلك الحالة طويلا.

لقد قيل لي ان رشدي الكيخيا، سافر الى حلب ويشعر بالقرف الشديد من كل شيء. ورأيت عدنان الاتاسي (ابن هاشم الاتاسي) ، يرابط في الرئاسة لكي يحمي والده من كيد رجال الجيش ومناورات الاحزاب. و«الشركة الخماسية» ـ في ميدان المال والاعمال ـ تشتري وتبيع ولا من يحاسب ولا من يهتم. وجميل مردم الدبلوماسي الكبير هاجر من دمشق الى سويسرا للعمل في حقل المصارف والاقتصاد. وصديقي المثقف العالم والسفير السابق الدكتور انور حاتم، مدير عام الرئاسة، ما زال يضحك ويعالج الازمات بالنكتة والفلسفة وقراءة الانجيل.

وجاء الحل ـ جاء أخيرا ـ مع قيام «الوحدة» التي لم تدم أكثر من ثلاث سنوات.. وكان لا بد بعدها من تغيير جذري منطقي ومتطور، يتحمل معه في القيادة السورية المسؤولية رجل في وزن.. حافظ الاسد.

اريد ان اقول، وبالتحديد، ان الرجال الكبار لا يأتون من فراغ، وان الظروف الداخلية والخارجية، مع ظروف هؤلاء الرجال ومزاياهم، مع الاوضاع القائمة من حولهم، مع الكثير من العناصر المطلوبة، هي التي تتكاثف وتأتلف وتفتح الابواب امام القادم الكبير.. الجديد.

وجاء حافظ الاسد الى الحكم..

وقد تسنى لي بحكم اقامتي في بيروت، وزياراتي المتكررة لدمشق وتنقلاتي بين القاهرة وعمان، ان اطلع على الكثير من خفايا العناصر التي تتكون منها شخصية حافظ الاسد.

مثلا: هو ـ أي حافظ الاسد ـ في نزاهته لم يقل عن نزاهة عبد الناصر، وكلاهما مرتبط بمرض «السكري» الذي حدد لكل منهما مواعيد الطعام، وانواعه مع بساطة العيش.

وكلاهما قومي الهوى، يؤمنان بقدرتهما على القيام بدور اقليمي بارز في الشرق الاوسط.

وما عجز عنه أو تمناه عبد الناصر في الميدان الاعلامي والسياسي في لبنان، حققه حافظ الاسد... عسكريا، ونسف اتفاق (مايو ايار) عام 1983، ولم يتصد للتيار الامريكي المحافظ على مصالحه في لبنان الى الحد الذي ارغم واشنطن على تقدير الدور السوري في لبنان.

وقد يكون صحيحا ان الاسد لم يستطع ان يفوز من امريكا ببعض الارباح التي فاز بها انور السادات لمصر، أو حسني مبارك من بعده، أو حتى الملك حسين للاردن، ولكن حافظ «الاسد»، بقي رئيسا لسوريا ...لا يضطر لدق أبواب واشنطن، بحجة التنسيق وتدبير القروض. كما انه لم يعط امريكا بعض الذي كانت تتمناه بالنسبة للانسحاب الاسرائيلي المنتظر من الجولان. ولم يجرؤ رئيس عربي آخر ان يقول للرئيس الامريكي عن بحيرة طبريا في لقاء «جنيف» الاخير بينهما: «ان هذه البحيرة تضم ذكريات شبابي، وكنت اسبح في مياهها وأنعم بتشجيرها ولا استطيع اليوم ان انسف ذكرياتي وألعن شبابي، لكي ارضي اسرائيل»!.

ثم اضاف يقول للرئيس الامريكي: «هل تظن انك تقدر ان تتنازل للمكسيك أو لكندا عن قطعة ـ ولو صغيرة ـ من ارض امريكا؟».

اعود واقول ان حافظ الاسد بقي كالجوهرة النقية صافي الضمير والقلب. وكانت امريكا تدرك هذه الحقيقة رغم انها تعترف بأن الاسد لم يستطع ان يقنع الرأي العام الامريكي بنقاوة اهدافه أو تخليه عن تأييد «الارهاب» الدولي..! ويحلو للذين يعارضون الاسد، اتهامه بأنه قد دخل لبنان لكي يستعمره أو يحد من نشاطه الاعلامي والمصرفي والثقافي، أو ينقله من خانة البلد «الغني». وعندما دخله كان صافي الرصيد اللبناني عشرين مليار دولار ـ حسب مزاعم سليمان فرنجية ـ واليوم يرزح لبنان «بديون» تصل الى عشرين مليار دولار! لقد هربت المصانع ورؤوس الاموال الى خارج البلاد.

والمعارضون للأسد يقولون انه ضرب الفلسطينيين واخرجهم من دوائر الصراع القريب على حدود اسرائيل، الى اليمن وتونس وبلاد الله الواسعة..! وانه ـ أي الاسد ـ اخرج الفلسطينيين من البندقية المتاخمة للحدود وانه قتل الحريات، خاصة حرية التجول والذهاب، والاياب والفكر، وسمح بادخال السلاح العربي الى المعركة داخل لبنان حيث اصبح «الكتائبي» يقتل «الفلسطيني» والعكس بالعكس، وسمح للجيش السوري بضرب الفلسطيني في صيدا وطرابلس وبحمدون حتى قضى عليهم في معارك طرابلس الاخيرة..!! ويقول المعارضون ايضا في معرض هجومهم على حافظ الاسد، انه لولا سوريا في حرب الخليج لما استطاعت امريكا ان تضرب صدام حسين بعد ان حملت بيدها مظلة الاشتراكية الممثلة بالرئيس السوري الراحل..!! ويزيد بعض المعارضين للاسد، على كل تلك النقاط، نقطة مهمة تقول ان الاسد قد حطم امثولة «التعايش الديني والطائفي» الذي اراد به لبنان ان ينافس اسرائيل امام العالم، حيث اضحى لبنان اليوم طائفي الواقع، بوجود ألف حزب وألف تنظيم وألف صوت يحمل اسم الله! اما الصحيح جداً فهو ان حافظ الاسد كان امثولة في النزاهة ونظافة اليد، والصحيح جدا انه عمل كثيرا وسهر كثيرا وتعب كثيرا من اجل سوريا ـ تماما كما كان الحال مع جمال عبد الناصر بالنسبة لمصر.

وكما خسر الاسد حرب عام 1967، عندما كان وزيرا للدفاع والطيران وبادر الى وضع مسؤولية الهزيمة على اخوانه القدامى من امثال نور الدين الاتاسي وصلاح جديد وابراهيم ماخوس، كذلك بادر عبد الناصر الى توجيه هذه التهمة.. ومعها عدد كبير من التهم الخطيرة كالخيانة والتقاعس والاهمال والتآمر، على رفيقه السابق المشير عبد الحكيم عامر.

لم يكن حافظ الاسد «ثعلبا» بالصورة التي يحلو لبعض المغالين المتطرفين في لبنان تصويره.

لقد حكم سوريا فقضى على الانقلابات وعلى احتمالاتها. وجعل من سوريا دولة واحدة موحدة. ورصد لها جهازا قويا من المخابرات الرسمية القادرة على ان تخترق مخابرات العدو المتربص على الحدود. ولم يعد بعيدا عن التفاهم مع الاردن ومع لبنان واستحوذ على احترام القريب والبعيد كرئيس عربي قوي، وذكي..

ماذا بعد؟

الواقع المر في هذه الدراسة، ان امثال عبد الناصر، وحافظ الاسد، قد جاءوا الى المسرح.. اما متأخرين، او متعبين! جاءوا يتصببون عرقا.

وفي لغة سباق الخيل، يفقد الحصان الذي يفوز متعبا أو «عرقانا» الكثير من الاعجاب، أو المراهنين، أو الشارين! ولعل في هذا الكلام، ما يربط الماضي المأساوي الملعون، بالحاضر الكريه المفلس. وسنبقى نصلي بانتظار وصول من هو قادر على ملء الفراغ..

صلوا معي..

كنت قد سألت ذات مرة في خريف عام 1986 الرئيس العراقي صدام حسين عن رأيه في جمال عبد الناصر، وجاءني الجواب وكأنه ينفي عن نفسه مثل هذه التهمة الخطيرة:

ـ أنا لست عبد الناصر!! ثم اضاف من دون ان اسأله:

ـ ولست حافظ الاسد..

ثم انهى قائلا:

ـ انني والعراق، نتحمل حاليا أوزار التركة المثقلة التي خلفها لنا.. عبد الناصر.. وحافظ الاسد! هذه الفقرة الأخيرة في جواب «صدام حسين» لم أنشرها في مقالاتي على صفحات «الجمهورية» القاهرية.

ولست بحاجة للشرح أو للتفسير او ابداء الاسباب..

... يتبع حقوق النشر محفوظة ـ خاب بـ«الشرق الأوسط»