تأملات في حركة فقدت المبررات

TT

بانعقاد القمة الخامسة عشرة لـ«حركة عدم الانحياز» في شرم الشيخ يومي الأربعاء والخميس (15 ـ 16) يوليو (تموز) 2009، يكون الرئيس حسني مبارك أعاد بعد 45 سنة استضافة مصر لـ«عالم عدم الانحياز» أحد المؤسسين له، ويكون أيضا كرس هذا المنتجع السياحي كـ«عاصمة ثانية» لمصر بعدما كانت الإسكندرية في زمن الرئيسين الراحلين جمال عبد الناصر وأنور السادات هي العاصمة الثانية، بمعنى أن اللقاءات الرسمية، وفي فصل الصيف بالذات، تتم فيها، أما المؤتمرات فتبقى في القاهرة. وكان لافتا أن الانعقاد جرى بعد 48 ساعة من حفل تخريج دفعة من طلبة الكلية الجوية أقيم في قاعدة بلبيس، وتخلله عرض جوي تابع خلاله الرئيس مبارك وضيفه الرئيس السوداني عمر البشير بيانا عمليا لتحرير قاعدة جوية في زمن قياسي شاركت فيه 180 طائرة متعددة الأنواع، الأمر الذي استوقف المراقبين الذين استنتجوا أن الانتساب إلى «عدم الانحياز» لا يعني ألا تكون الدولة جاهزة لكل احتمالات المواجهة، وبالذات مع جار هدد ذات يوم رمز الدبلوماسية الحالية فيه أفيغدور ليبرمان بتدمير السد العالي، ويواصل الاستهانة بالرئيس مبارك الذي يرفض دعوته لزيارة مصر، ويرفض أيضا اختيار ليبرمان أحد المقربين منه الجنرال المتقاعد شاؤول كميسا سفيرا لدى مصر، وذلك من باب مكايدة الرئيس مبارك. ومن الأمثلة على الاستهانة قوله «إن بإمكان مبارك أن يذهب للجحيم إن كان لا يرغب في زيارة إسرائيل».

وقبل القمة الخامسة عشرة لـ«حركة عدم الانحياز» كانت شرم الشيخ استضافت عشرات المؤتمرات والقمم العربية والدولية المصغرة، إلا أنها المرة الأولى التي تستضيف فيها 118 دولة، أي أكثر من نصف دول العالم، متمثلة هذه الدول بعدد لا بأس به من الرؤساء وعدد أكبر من رؤساء الحكومات أو الوزراء. وكان من شأن مشاركة الرئيس محمود أحمدي نجاد في المؤتمر، وكذلك الرئيس بشار الأسد، وصديق الاثنين وحليفهما الشيخ حمد بن خليفة آل ثان أمير دولة قطر، إضفاء مسحة تصالحية على المؤتمر، لكن الرئيس نجاد لم يلب الدعوة لأنه لا يريد الإطلالة على مؤتمر قبل إبراء الندوب الناشئة عن الانتفاضة غير المحسوم أمرها في إيران، وأن الرئيس بشار ارتأى أن يتعامل مع مؤتمر تستضيفه مصر بمثل تعامُل الرئيس مبارك مع القمة العربية الدورية التي استضافتها دمشق العام الماضي، أي أن يكون التمثيل في مستوى دون الوزير بقليل، مع أن الظروف الراهنة تستوجب ترجيح المرونة على المكايدة. أما غياب الشيخ حمد فإنه يندرج تحت الدواعي نفسها.

قد يبدو انعقاد مؤتمر يضم أكثر من نصف عدد دول العالم ضمن تصنيف عدم الانحياز مثيرا للاستغراب بعض الشيء، ذلك أن مبررات وموجبات استنباط هذه الفكرة قبل أكثر من نصف قرن، أي إنشاء الحركة من خلال لقاء لبعض كبار قادة ذلك الزمن الغابر عقدوه عام 1955 في باندونغ، لم تعد واردة بعد حدثين أشبه بالزلزالين: الأول عندما تساقط الاتحاد السوفياتي وبقيت الولايات المتحدة قوة عظمى أحادية لم تجد من يواجهها من حيث التوازن فأمعنت عربدة ومغامرات حربية أوصلتها إدارة الرئيس جورج بوش الابن إلى حافة التساقط المالي الذي هو الزلزال الثاني، وها هي منذ انصراف تلك الإدارة الهوجاء تحاول إصلاح الوضع المالي المرتبك، ولا يلقى سعيها النتيجة المرجوة، الأمر الذي جعل حال أميركا كقوة عظمى مثل حال الاتحاد السوفياتي عندما تساقط. دولتان كانتا عظميين تحاولان الآن استعادة الشأن من خلال الاستحواذ على ثروة النفط الإيرانية بالنسبة إلى روسيا مقابل تأهيل إيران نوويا، وعلى ثروات النفط الخليجية بالنسبة إلى أميركا مقابل إغراءات كلامية من نوع اعتبار أمن دول الخليج من أمن الولايات المتحدة، وبالتالي فإن أي إنجاز نووي إيراني سيقابله ردع أميركي، ومن نوع تحقيق التسوية بتنفيذ صيغة الدولتين حلا للموضوع الفلسطيني وحسْما للصراع العربي ـ الإسرائيلي.

وعندما تكون هذه حال الدولتين اللتين بسبب حربهما الباردة وصراعهما للسيطرة على صغار العالم، فكيف يجوز الإبقاء على مفهوم «حركة عدم الانحياز»؟ ثم إن عدم الانحياز إلى مَن؟ والخشية من التخوف من عواقب الانحياز إلى مَن؟.. مِن هنا بات لزاما وقد اختارت الحركة للقمة الخامسة عشرة شعار «التضامن من أجل السلام والتنمية» أن يكون هذا الشعار مع شيء من التعديل هو التسمية. ومثل هذا الأمر يُسبغ عليها مصداقية أكثر، وتلقى من الناس نظرة جديدة تفتقدها منذ أن حدث التساقط بنوع يختلف عن الآخر للدولتين العظميين.

ومثل أي مؤتمر دولي حيث تكون هنالك دلالات لافتة، كانت القمة الخامسة عشرة لـ«حركة عدم الانحياز» تتسم ببعض الدلالات، لعل أبرزها أن الدبلوماسية المصرية قربت المسافة بين رئيس الحكومة الهندية ورئيس الحكومة الباكستانية اللذين ترأسا وفديْ بلديهما إلى القمة. فقد استطاع الرئيس مبارك جمع الجارين اللذين كادا يقتتلان على خلفية عملية إرهابية، لكنهما اعتصما بحبل الله، ربما لأنهما اقتنعا مجتمعين بأن السلاح النووي بين يدي كل منهما سيحولهما في لحظة عناد إلى أنهما سيضعان الشعبين في الجحيم النووي. أما العقيد معمر القذافي الذي قدمه الرئيس مبارك للتحدث في المؤتمر على أنه «ملك ملوك أفريقيا» فإنه اعتبر مجلس الأمن الدولي الحالي تلك القوة التي يجب على دول «حركة عدم الانحياز» العمل على زعزعتها. وذهب أبعد من ذلك حيث طالب باعتماد اقتراح سيقدمه في الدورة المقبلة للجمعية العمومية للأمم المتحدة في سبتمبر (أيلول) المقبل، بصفة كونه الرئيس الحالي للاتحاد الأفريقي، يقضي بأن يكون للاتحاد مقعد دائم في مجلس الأمن، على أن يكون له حق النقض مثله مثل الأعضاء الخمسة الدائمين في المجلس. وعندها لن يعود مجلس الأمن في نظر العقيد ذلك المجلس «المحتكَر من مجموعة صغيرة من أصحاب المقاعد الدائمة، وهم بدورهم يقعون تحت تأثير إحدى القوى الكبرى». وهو في عدم تحديد هذه الـ«إحدى» التي هي أميركا يريد أن يُبقي على الود المستجد بينه وبين الرئيس الأميركي ذي الأصول الأفريقية والإسلامية باراك أوباما. وفي أي حال ربما كان من الأجدى أن يكون الاقتراح يتضمن تمثيل «حركة عدم الانحياز» كعضو سادس في مجلس الأمن إلى جانب أميركا وبريطانيا وفرنسا وروسيا والصين، لكن انتساب الأخيرتين في صيغة ما إلى الحركة ربما يعوق الأخذ بالاقتراح، فضلا عن أن عددا من الأعضاء سيتعاركون لأن مصر سترى أنها الأحق بالتمثيل، وأن إيران ستقول إنها، وقد صنَّفت نفسها وعلى لسان رئيسها محمود أحمدي نجاد وبعض جنرالات الحرس الثوري على أنها من الدول العظمى، هي صاحبة الحق. كما أن دول الخليج ستقدم نفسها على أن مساهماتها في نجدة الحالة الاقتصادية والمالية المتعثرة للولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا واتفاقاتها المجزية مع كل من روسيا والصين، أي مع الدول الخمس الدائمة العضوية، تجعلها ترى أن المملكة العربية السعودية كبرى المجموعة الخليجية، هي الأحق والأجدر بأن تكون العضو السادس الذي يمثل الأمتين، فضلا عن أن مشاركة الملك عبد الله بن عبد العزيز في قمة العشرين في لندن كانت اختبارا بالغ الأهمية لشراكة مَن يمثل «عالم عدم الانحياز» إذا كان لا بد من هذا التمثيل لتحقيق توازن مفقود وإفراغ مجلس الأمن من الصفة التي رماه بها العقيد القذافي وهي «أننا لا نثق فيه ولا تأثير لنا عليه ولا يهتم بمشاكلنا». من الدلالات أيضا أن إيران التي تمثلت في قمة شرم الشيخ بوزير خارجيتها منوشهر متقي هي من حيث لغة التخاطب غير إيران ما قبل الانتفاضة الموسوية التي عززها لاحقا شيخ الثورة هاشمي رافسنجاني. وكان لافتا قول متقي بعد انتهاء أعمال القمة واعتماد الوثائق وإقرار البيان الختامي ذي المائة صفحة والخمسمائة فقرة والتفاهم على أن تنعقد القمة المقبلة بعد ثلاث سنوات (2012) في طهران، مخاطبا مبارك المزدوج الرئاسة، رئاسة مصر ورئاسة حركة تنتسب إليها 118 دولة على مدى ثلاث سنوات كالآتي: «السيد الرئيس حسني مبارك. نيابة عن حكومتي وبلادي أشكركم بإخلاص وأمانة للشرف الذي أعطيتمونا إياه، وذلك من خلال استجابتكم لدعوة بلادي لاستضافة القمة السادسة عشرة لحركة عدم الانحياز. كما أننا نعتمد على تعاونكم ودعمكم من أجل إعطاء دفعة للقضايا المشتركة ومصالح البلدان وتحمل المسؤوليات التي ترتبط بهذا المنصب المرموق. ومن دواعي فخر بلادي أن تتعاون مع كوبا ومصر خلال السنوات المقبلة».

خلاصة القول إن القضية الأساسية لهذه الدول التي استضافها الرئيس حسني مبارك في شرم الشيخ التي غدت «شاطئ المؤتمرات الكبرى والمصغرة» والتي كان قيل في ما مضى إن الأمير سعود الفيصل، الذي افتقد المؤتمر إطلالته حيث ناب عن المملكة وزير الدولة للشؤون الخارجية نزار عبيد مدني الذي مدَّد أمر ملكي يوم الجمعة (17ـ7ـ2009) خدمته لمدة أربع سنوات، أرادها أن تكون المقر الدائم الانعقاد للقمم العربية الدورية، هي أن تُبلور هويتها الجديدة. وهي إذا كانت لن تفعل ذلك وبحيث تصبح «مجموعة التضامن من أجل السلام والتنمية والاستقرار الدولي» بدل تسمية «حركة عدم الانحياز»، فإنها ستبقى مجرد تجمع دولي لدول الدرجة الثانية تلتقي فيه كل ثلاث سنوات على مستوى القمة فتكرم مَن يستحق التكريم على نحو اختيار قمة شرم الشيخ يوم 18 يوليو من العام الذي هو يوم ميلاد الزعيم الجنب أفريقي نيلسون مانديلا يوما عالميا، وتنادي بـ«نظام دولي سياسي واقتصادي أكثر عدالة وتوازنا بحيث يرسي هذا النظام ديمقراطية التعامل بين الأغنياء والفقراء» على نحو ما طالب بذلك مضيف المؤتمر الرئيس مبارك، وتدعو إلى «نظام مالي واقتصادي جديد يقوم على مشاركة فعلية من جميع الدول خصوصا الدول النامية» على نحو ما طالب بذلك رئيس كوبا راؤول كاسترو. كما تواصل السعي لتوسيع وجود الحركة في منظمات ووكالات الأمم المتحدة والهيئات الدولية، وتسعى لتصفية كل أشكال التعصب الديني والقضاء على ظاهرة الازدراء أو التشهير بالأديان، وكذلك تشجيع حوار الحضارات والعقائد وبما يراعي الخصوصية الثقافية لها.. وإلى ذلك تستمر تطالب بحق الشعب الفلسطيني في أن تكون له دولته وعاصمتها القدس الشرقية، وغيرها من المطالب الرئيسية.. إلا إذا كانت حدثت متغيرات يسعى إليها الرئيس أوباما لكي تأخذ طريقها إلى التنفيذ مع نهاية ولايته الرئاسية، وكان لافتا للانتباه أنه لم يبعث إلى المؤتمر بتحية كتلك التي بعث بها الرئيس الروسي ديمتري ميدفيديف، وكان بعدم التنبه إلى هذه اللفتة وفي الوقت نفسه عدم التعرض للمؤتمر كما حال أقرانه السابقين، يوحي بأن أميركا التي بسببها ومعها الاتحاد السوفياتي كانت مبادرة جمال عبد الناصر وأحمد سوكارنو وجواهر لال نهرو والسيدة باندرانيكه والماريشال تيتو وشو إن لاي وكوامي نكروما، لم تعد أميركا التي يشكل عدم الانحياز إليها قضية وطنية، فما كان قبل 54 سنة لا وجود له الآن، وليس واردا على الأرجح في حسابات أحد بعد أن دشن أوباما ظاهرة التغيير في الدولة الأعظم.. وليس أمام الآخرين وبالذات مجتمع المعاندين أمثال إسرائيل العنصرية وإيران ذات الخلطة غير السحرية كما أثبتت ذلك الانتفاضة المتواصلة سوى المسارعة إلى الأخذ بهذه الظاهرة نشدانا للسلامة الشخصية والعامة.